ونقفز قفزة أخرى لنتكلم على خصيصة أخرى من الخصائص التي أشرنا إليها في مقدمة الكلام، والتي يتميز بها النابغون أو الفائقون أو كبار الهمة، وقد أشرنا إليها ضمناً، وهي قضية النضوج الاجتماعي المبكر بجانب النشأة في بيئة اجتماعية طيبة تساعد على الازدهار، فكما أن الطفل ينمو فإنه ينمو في عدة اتجاهات، فكما أن جسمه ينمو باستمرار وله ملامح معينة وعلامات في نموه في كل مراحله العمرية فكذلك نفسه تنمو، وروحه تنمو، وشخصيته تنمو، وهناك نوع من النمو الاجتماعي في تعامله مع المجتمع من حوله، والنضج الاجتماعي المبكر الذي يؤهله إلى أن يتحمل المسؤوليات منذ حداثة سنه، ونحن إذا تأملنا أعمار كثير من العلماء الذين رحلوا في طلب العلم في آفاق الأرض نجد أن بعضهم كان عمره ثلاث عشرة سنة، أو عشر سنوات، أو ما بين العشر والعشرين، فكان الشاب الذي عمره ثلاث عشرة سنة -كالإمام ابن جرير الطبري وغيره من الأئمة- يرحل إلى أقطار الأرض في طلب العلم، وما كانت وسائل العلم المرفهة موجودة في ذاك الزمان، فكون أبيه أو أمه أو وليه أو شيخه يتركه يرحل في الأرض لطلب العلم فيه إشارة عظيمة جداً إلى النضوج الاجتماعي الذي كان يبلغه هؤلاء العلماء، بمعنى أنه يستطيع أن يواجه الناس وحده، ويسافر وحده، ويتحمل مسئولية نفسه، ويغترب، ويصارع الفقر، ويصارع المرض، ويصارع الوحدة، ويستطيع أن يتعامل مع الناس، وكل هذا من أمارات النضوج الاجتماعي المبكر، ولكن بعض الآباء أحياناً يرتكب خطيئة الحماية الزائدة للولد، حتى إن كان قد وصل إلى الثانوية يريده أن لا يقطع الشارع إلا إذا أمسك بيده، فيطيل فترة الطفولة في عمر هذا الشاب، وكثير من الآباء من خوفه على ابنه والحماية الزائدة له لا يحمله أي مسئولية.