فيما يتعلق بالتشجيع وأهميته في دفع النابغين إلى الأمام يحكي الأستاذ علي الطنطاوي حفظه الله قائلاً: قرأت مرة أن مجلة إنجليزية سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الأداء، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع، وقالت: إنها في تلك السن وبعد تلك الشهرة والمكانة تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير.
والتثبيط وكسر الهمم واحتقار النفس له أثر سيء جداً في تحطيم المواهب، وحرمان الأمة من عبقرية أصحابها، وإبداعهم.
وضرب الطنطاوي مثالاً لذلك بالشيخ محمد أمين بن عابدين العلامة الحنفي الجليل صاحب أشهر وأعظم كتاب في الفقه الحنفي المعروف بحاشية ابن عابدين، قال الشيخ الطنطاوي: كان في الشام هؤلاء المثبطون من أبناء عائلات معينة احتكرت الوظائف العلمية، وكانت كلما أحست برجل خارج هذه العائلات عليه آثار النباهة والحرص على التعلم يذهبون إلى هذا الشخص ويحاولون تثبيطه حتى لا ينافسهم في هذه الوظائف التي احتكروها سنين طويلة، فرأى المثبطون من محمد أمين بن عابدين الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقد والعقل الراجح، فخافوا منه فذهبوا يكلمون أباه -وكان أبوه تاجراً- ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكب به عن طريق العلم، وجعلوا يكلمونه ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلصائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فسكت الوالد فكان منه هذا الولد المبارك ابن عابدين صاحب الحاشية وهي أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي.
وهكذا أرادوا أن يصرفوا أستاذنا العلامة السلفي الكبير محمد كرد علي عن العلم، فبعثوا إلى والده بشقيقين من آل كذا، وهما قد ماتا فلست أسميهما على رغم أنهما قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالباً، فما زالا بأبيه ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع، ولا منه فائدة، ويلحان عليه ويلازمانه حتى ضجر فتركهما، فكان منه ولده الأستاذ كرد علي أبو النهضة الفكرية في الشام وقائدها، ومدير معارف سوريا الأسبق، ومن مصنفاته خطط الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإمارة الإسلامية، والإسلام والحضارة الغربية، والمقتبس، ومن مصنفاته أيضاً: المجمع العلمي العربي بدمشق، والشعراء والكتاب من الشباب.