{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:59-60] هذه الآية أصل في أن الجزاء من جنس العمل، وأن المحسن يجازى بالإحسان، وفي المقابل المسيء يجازى بإساءته، هذا الأصل وهذا التقعيد.
وقد قال ذو القرنين لما قال الله سبحانه وتعالى له: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:86-88] .
فهذا هو الأصل والتقعيد: أن المحسن يجازى لإحسانه، وأن المسيء يجازى على إساءته، إلا أنه أحياناً تتدخل قرائن فتجعل العقوبة مثلاً تتضاعف، أو قرائن تجعل العقوبة تخف بل قد تزال أحياناً، ولهذا عشرات الأدلة بل تكاد تصل إلى مئات الأدلة ألا وهي: مسألة تضعيف العقوبات، أو تخفيف العقوبات، أو تضعيف الثواب أو الجزاء فقط على قدر العمل.
وهذه مسألة قد يفهمها شخص على غير وجهها، وإن كان دخولنا إليها عرضاً في التفسير، فمثلاً: رجل يبيع ويشتري، فجاءه شخصان فباع لأحدهما السلعة بعشرة، وفي نفس الوقت باب من الآخر بخمسة.
فقد يتوهم البعض أن هذا خطأ، ولكنه صواب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ولك أن تبيع بما شئت، فالله يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فالإكراميات قد تختلف، والعقوبات قد تختلف.
وقد سبق أننا بينَّا: أن الزنا حرام بالاتفاق والإجماع، ولكن صدور الزنا من شيخ كبير السن أشد جرماً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ملك كذاب، وشيخ زانٍ، وعائل مستكبر) ، والزنا محرم لكنَّ الزنا بحليلة الجار أشد تحريماً، والزاني يجلد مائة جلدة، لكن إذا كانت الزانية أمة فإنه يخفف عنها العقوبة، وهكذا سائر الأمور والأحوال، فقد تزيد العقوبات وقد تخف، وقد يزيد الإحسان وقد يخف، وقد تزيد المكافآت وقد تقل.
وعلى كل من ولّاه الله سبحانه وتعالى عملاً أن ينظر فيمن تحت يديه بهذا المنظار، فإن الله سبحانه وتعالى كما أفادنا محمد عليه الصلاة والسلام: (لما عمل اليهود من الصباح إلى الظهر وأعطاهم الله أجرهم، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر وأعطاهم الله أجرهم، وجاءت أمة محمد فعملت من العصر إلى المغرب وتضاعف لها الأجر، فاحتج اليهود والنصارى: يا رب! عَمَلُنَا أكثر وأَجْرُنَا أقل، قال الله لهم: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء) .
فمن كان على عمل له أن يكافئ وله أن يعاقب على قدر مصلحة العمل، وعلى قدر الأسباب المترتبة من هذا العمل.
لكن القاعدة الكلية التي تحكم هي قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58] ، فالآية أفادت: أن الجزاء من جنس العمل.
ومن الأحاديث الدالة على أن الجزاء من جنس العمل: قوله عليه الصلاة والسلام: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) ، وقوله: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) وقوله: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وقوله: (المستكبرون في الدنيا يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأخفافهم) كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من النصوص.