الآية في مطلعها تحمل مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له وتصبيراً، فإن الشخص إذا ابتلي بابتلاء من الابتلاءات وشاركه فيه غيره هانت عليه بلواه، وهانت عليه مصيبته، كما قالت الخنساء وهي ترثي أخاها صخراً: فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس معهم بالتأسي ولذلك كثرت المواساة، وكثر التذكير بأخبار الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لتصبيره، فقال الله له: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام:34] ، وفي الآية الأخرى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة عند موته: (يا فاطمة! إنه قد حل بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً، ألا اصبري فالذي نزل بأبيك لن ينجو منه أحد) ، وقال الله سبحانه وتعالى: {أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ، فكل هذه من أنواع المواساة التي يواسي ربنا سبحانه وتعالى بها عباده ورسله، ويصبِّرهم الله سبحانه وتعالى بها.
فلذلك شرعت أشياء لخدمة هذا الأصل، من عيادات المرضى، واتباع الجنائز، فإذا فقئت عينك مثلاً، ودخلت المستشفى وأنت تتألم، ثم دخل بعدك رجل فقئت عيناه؛ تهون عليك بلواك.
وإذا دخلت وقد كُسرت رجلك، ورأيت رجلاً كسرت رجلاه، وبُتِرت يداه، هانت عليك مصائبك.
هذا منهج من مناهج التصبير، ألا وهو المواساة، وكان الرسول يصبر نفسه بهذا المبدأ، فلما أوذي عليه الصلاة والسلام قال: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) .
وهذا يعطينا فقهاً للتعامل مع الناس، ألا وهو مواساة الناس بمصائب غيرهم، فإذا جاءك شخص يشكو من مرضٍ متألماً منه، فاحك له قصصاً تصبره بها، وذكِّره بعبر فيها أقوام قد أُصيبوا بأشد وأشد من الذي ابتلي به، فحينئذٍ تهون عليه تلك المصيبة التي هو فيها، ويحمد الله سبحانه وتعالى على ما أصابه.
وهذا مضمن في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر:9] أي: كذبوا عبدنا نوحاً عليه الصلاة والسلام، فكما أن محمداً صلى الله عليه وسلم كُذِّب، فقد كُذِّب أيضاً نوح، وكما أن المشركين كذّبوا محمداً فقبلهم أهل شرك كذبوا نوحاً صلى الله عليه وسلم.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر:9] فيه إشعار بالعبودية لله.