ثم قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، وهذا كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (إن كثيراً من آي الكتاب العزيز غني بذاته عن التأويل) ، كقول الله سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وكقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] ، وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] ، كل هذه آيات لا تحتاج إلى كبير تأويل ولا إلى كبير تفسير، فهي مفهومة يفهمها العرب إذ هي لغتهم، فكثير من آي الكتاب العزيز غني بذاته عن التأويل، وينبغي للخطيب وللمعلم وللمذكر أن يذكر الناس بالسهل اليسير، ولا يتعمد الإتيان بألفاظ يفكر فيها أياماً حتى يُخرجها للناس، ولا تخرج من قلبه بل تخرج من لسانه، ثم الناس لا يفهمونها ولا يفقهونها، فالفقيه حق الفقيه والرباني كل الرباني هو الذي يقدم للناس مادة علمية سهلة تُفهم، ولذلك ترى مقالات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست كمقالات غيره، مقالات النبي صلى الله عليه وسلم مقالاتٌ سهلة ويسيرة ومفهومة، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، كلام سهل ويسير ومفهوم.
أما هؤلاء الذين يتشدقون في خطبهم ويأتون بغريب الألفاظ حباً في ثناء الناس عليهم، فإنهم مذمومون من جملة من الوجوه: الوجه الأول: إن قصدوا الرياء فعملهم حابط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله سبحانه: من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
الوجه الثاني: أنهم مبتعدون عن قول الله سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، ومبتعدون عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: أنهم واقعون تحت طائلة السجع المذموم الذي حذر منه ابن عباس وغيره، فقد قال ابن عباس لبعض التابعين: (وانظر إلى السجع من الدعاء فاجتنبه؛ فإني عهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك) .
أما التكلف الممقوت، وتمكث شهراً تفكر في بيت شعر، أو يوماً تفكر في قافية توافق قافيتك، أو تأتي بأسلوب صعب شاق على الناس، فسعيك غير مشكور، وعملك غير محمود، والسهولة كل السهولة واليسر كل اليسر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلما دخلت إلى أقوال علم الكلام ازددت بعداً عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا التعقيد الزائد لا معنى له ولا حاجة.
وتوجد كتب أُثني عليها، وهي في الحقيقة جدير بها أن يثنى عليها من باب تأصيلها للعقائد، وتوضيحها للمناهج؛ ككتاب العقيدة الطحاوية وشرحها، لكن شابتها الألفاظ المعقدة زائدة التعقيد التي تجعلك تتهم نفسك عند قراءتها، ولو كان الكاتب قد أوجز وعبر بأساليب سهلة مفهومة لكان قد اجتمع إليه الحسن إلى الحسن، ولكنها تعقيدات في الألفاظ، حتى وأنت تقرأ -أيها الذكي- قد تتهم نفسك لعدم فهم هذه الألفاظ، وهذا الشيء أيضاً شاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في أجزائها الأول، فهي أجزاء حملت تعقيداً وألفاظاً معقدة كان من الأولى أن ينقى الكتاب منها، إلا أنها لما كانت في معرض الرد على أهل الكلام أُبيح له ذلك واستجاز ذلك رحمه الله تعالى، فلا تتهم نفسك أبداً وأنت تقرأ مثل هذه المقالات، فالعيب ليس فيك، إنما العيب في الذي لم يفهمك مراده، ولم يفهمك مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الباب.
وعلى هذه المسائل فلتقس الأمور، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، أي: هل من معتبِر؟