حادثة الإفك

نسوق حديث الإفك بنوع تصرف واختصار.

فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن، والمسانيد ما حاصله: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه -أي: أسهم بين نسائه- فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فأسهم بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوته وقفل راجعاً فقدت عقداً لي من جزع ظفار قد انقطع.

قالت: فحبسني ابتغاؤه) .

الحديث باختصار: أن أم المؤمنين عائشة رجعت مع النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، فنزلوا مكاناً ونزلت معهم أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحملوا الهودج الذي كانت فيه أم المؤمنين عائشة وظنوا أن عائشة فيه؛ لأن النساء كن خفافاً لم يثقلهن اللحم، فظن الصحابة أن عائشة رضي الله تعالى عنها في الهودج، فحملوا الهودج على الجمال وانطلقوا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل رجلاً من أصحابه يقال له: صفوان بن المعطل السلمي خلف الجيش لالتقاط الساقطة ولرد الضالة والشاردة، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يظنون أن عائشة معهم، فجاءت عائشة رضي الله تعالى عنها إذ كانت تلتمس العقد الذي ضاع منها فلم تجد بالأرض داع ولا مجيب، فجلست في مكانها، فغلبتها عيناها فنامت وليس بالمكان أحد لعلهم يفتقدونها فيرجعون إلى هذا المكان فيأخذونها منه.

فجاء صفوان بن المعطل السلمي رضي الله تعالى عنه، فوجد إنساناً نائماً فرأى عائشة فعرفها، وكان يعرفها قبل نزول الحجاب، قالت: (فلما رآني صفوان خمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني صفوان بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه) ، أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فوطأ لها الراحلة -أي: برك لها الناقة- فركبت رضي الله عنها، وطفق صفوان يسحب الناقة إلى المدينة، فلما رآها بعض أهل السوء طعنوا فيها هذا الطعن، حيث بلغوا عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في المدينة بذلك فقال مقالته الخبيثة التي لا تصدر إلا من خبيث: والله ما نجت منه ولا نجا منها.

وطفق أهل النفاق يتحدثون في هذا الحدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وشاء الله سبحانه وتعالى أن تأتي عائشة إلى المدينة فتمرض، فمكثت في بيتها مريضة لا تعلم شيئاً عن الحادث وعن الكلام الذي يتحدث به، فنامت مريضة والنبي صلى الله عليه وسلم تأتيه الأخبار أن عائشة فعلت كذا وكذا مع صفوان بن المعطل السلمي، واستمرت الوشايات شهراً كاملاً، ومما زاد الموقف تأزماً أن الوحي انقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشهر، فاتخذ أهل النفاق من ذلك ذريعة لتعزيز مقالتهم، فقالوا: ولأن البيت شابته الشوائب فقد امتنع الوحي عنه، ولما كثر كلام أهل النفاق انضم إليهم أيضاً بعض المسلمين وطفقوا يطعنون في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فانضم إليهم حسان بن ثابت رضي الله عنه، وطفق يطعن في أم المؤمنين عائشة ويتهمها هذا الاتهام، ودخلت في باب الطعن في أم المؤمنين حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين، وطفق بعض الذين شهدوا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعنون في عائشة، فقام منهم مسطح بن أثاثة وكان رجلاً شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفق يطعن في أم المؤمنين عائشة، فآذى هذا الوضع النبي صلى الله عليه وسلم غاية الأذى وآلمه غاية الألم، حتى استشار أقاربه ومن يحبهم في شأن عائشة، فاستشار علياً رضي الله عنه، فقال علي: (يا رسول الله! إن الله عز وجل لم يضيق عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية التي تلازمها في البيت -وهي بريرة - تصدقك) .

ثم استشار النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد حب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أسامة: (أهلك -يا رسول الله- وما علمت عليهم إلا خيراً) فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم: بريرة، فقال: (يا بريرة! هل رأيت من عائشة شيئاً يريبك؟ قالت: ما رأيت منها إلا خيراً يا رسول الله، إلا أنها جارية حديثة تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله) أي: أن عائشة تغفل عن العجين فتأتي الشاة فتأكل هذا العجين.

فاشتد الوضع على النبي صلى الله عليه وسلم فقام يخطب على المنبر ويقول: (من يعذرني من رجل بلغني آذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه-سيد الأوس-: أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان منا قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة -وكان رجلاً صالحاً كما وصفته أم المؤمنين عائشة، ولكن احتملته حمية الجاهلية- وقال: والله لا تقتله ولا تقدر على قتله.

فقام أسيد بن حضير وقال لـ سعد بن عبادة: والله لنقتلنه، إنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان واشتدت الأزمة حتى كادوا أن يقتتلوا فيما بينهم، فاشتد حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وبدأ يخفضهم ويسكنهم، ثم رجع إلى أم المؤمنين عائشة، وعائشة تقول: ولا أشعر بالشر ولا أدري ماذا يحدث في الناس إلا أنه يريبني من رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لا أجد منه اللطف الذي كنت أجده حين أمرض، إنما يدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليَّ فيسلم ويقول: كيف تيكم؟ فذاك الذي يريبني، وتقول: مر عليّ شهر كامل وأنا مريضة، ثم خرجت يوماً مع أم مسطح قبل المناصع نتبرز فعثرت أم مسطح في مرطها، فلما كان ذلك قالت أم مسطح: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه! أولم تسمعي ما قال؟ قالت عائشة: فقلت لها: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فقلت لها: والنبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك القول؟ قالت: نعم، قلت لها: وأبو بكر علم هذا القول؟ قالت: نعم.

قلت: وأمي علمت هذا القول؟ قالت: نعم.

قالت: فازددت مرضاً على مرضي، وبقيت ثلاثة أيام لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، ثم استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! ائذن لي أن آتي أبواي.

فأذن لي، فذهبت إليهما، فأخبراني بالذي قال أهل الإفك، أما أمي فقالت: يا بنيه! هوني عليك إنه لم تكن امرأة قط وضيئة عند زوج يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها -أمها تعزيها بهذا العزاء- فبينما هم على ذلك وهي مع أبيها وأمها ومع امرأة من الأنصار تزورهم، إذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس وتشهد ثم قال: يا عائشة! إني مخبرك بأمر إن كنت منه بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، فإن العبد إن تاب تاب الله عليه، ثم أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، قالت: فانقطع دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، فقلت: يا أبي! أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أمي: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم! فقلت: والله لقد رميتموني بأمر والله يعلم أني منه بريئة، وإن قلت لكم: إني بريئة لم تصدقوني، وإن قلت لكم: إني فعلت هذا الأمر صدقتموني، والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ، ثم انخرطت في البكاء وأبوها يبكي معها وأمها تبكي معها والأنصارية تبكي معهم، فكما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6] .

فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ثم سري عنه فقال: أبشري -يا عائشة - فقد أنزل الله براءتك! ثم تلا هذه الآيات: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُم ... ) .

الآيات.

فقالت أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه، فقلت لها: والله لا أقوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحمده، إنما أحمد الله الذي أنزل براءتي، ونزلت آيات الإفك عشر آيات) والغرض منها ليس فقط إظهار براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وإن كان هذا وارد فالله يدافع عن الذين آمنوا، فكما قالت أم المؤمنين عائشة: (والله ما كنت أظن يوماً أن الله سينزل في شأني وحياً يتلى، وغاية ما كنت أريد أن يري الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام رؤيا في نومه يبرئ الله بها ساحتي) ، ولكن الله كريم يبرئ المظلومين في الدنيا والآخرة.

فقد برأ الله سبحانه وتعالى مريم مما وصفت به بأن أنطق عيسى عليه الصلاة والسلام في المهد، وبرأ الله عز وجل موسى مما وصف به فطار الحجر بثوبه، وبرأ يوسف صلى الله عليه وسلم مما رمي به، فشهد الشاهد من أهلها ليوسف صلى الله عليه وسلم، وبرأ الله تلك الجارية التي كانت تخدم عند قوم، وكانت قد انتقلت إلى الإسلام وجالست عائشة فكانت تكثر من قولها: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني قالت عائشة: (ما هذا البيت الذي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015