قال تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] : وهذا هو الذي شكك النصارى أو شكك أهل الزيغ، فقالوا بأنه روح من الله، وما دام أنه روح من الله فهو ابن لله، وتركوا المحكم في هذا واتبعوا المتشابه.
أما المحكم: فمنه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ} [الزخرف:59] أي: ما هو إلا عبد، {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] ، ومنه قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172] ، ومنه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، واتبعوا المتشابه: ألا وهو قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] .
فالإجابة على هذه الجزئية (وروح منه) أن يقال: إن كل البشر روحٌ من الله وليس ذلك لعيسى فقط، بل محمد عليه الصلاة والسلام روح من الله، وكذلك عموم البشر.
فإن قيل: لماذا اختص عيسى بأنه روحٌ من الله؟ فالإجابة: أن هذه الإضافة إضافة تشريف وتكريم لعيسى، كما قال صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] مع أن الأرض كلها لله، وكل النوق لله، لكن قيل: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف:73] تكريماً وتشريفاً لهذه الناقة بعينها.
وكما قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] مع أن كل البيوت لله، ولكن قيل عن البيت الحرام خاصة أنه بيت الله تشريفاً للحرم.
وكما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] مع أن الأسواق لله، والبيوت لله، والشوارع لله، وكل ما بين السماء والأرض لله، لكن قيل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18] تشريفاً للمساجد، فقوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] تشريف لعيسى صلى الله عليه وسلم، وثم أوجه أخر.
قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء:171] لأن فريقاً منهم يقول: إن عيسى ومريم ورب العزة سبحانه ثلاثة أقانيم في أقنوم واحد، كالأصبع فيه ثلاث مفاصل، فيعبدون هذا الإله.
قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171] (سبحانه) أي: تنزه.