قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) يا محمد! (لَهَمَّتْ) أي: أوشكت واقتربت.
(طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) الآية تبين أن المعصوم من عصمه الله سبحانه وتعالى، حتى لو كان نبياً من الأنبياء، والمحفوظ من حفظه الله تبارك وتعالى، ولذلك قال رب العزة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] فهن حافظات للغيب لا بأسوتهن ولا بقوتهن، ولا بتماسكهن، لكن قال تعالى: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] أي: بتثبيت الله عز وجل لهن، فالمثبت من ثبته الله تعالى.
ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، ويوسف عليه الصلاة السلام يقول: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] .
قوله تعالى: (لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) أي: يصرفوك عن طريق الحق إلى الباطل، وعن القضاء الحق إلى القضاء الظالم الجائر، وَهَبْ أن الرسول صلى الله حكم على البريء أنه يستحق القتل فهنا قرر العلماء أن قضاء الدنيا لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أعقل الناس، وسيد ولد آدم، وقاض رزين عاقل، وقاض نبي، وفيه كل صفات الخير، ومع ذلك يقول: (إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من أخيه وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما اقتطع له قطعة من نار، إن شاء قبلها وإن شاء تركها) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقد يكون القاضي عاقلاً رشيداً رزيناً متحرياً في البحث عن كل القرائن المحيطة ومع ذلك يخطئ، فقد يجيء من أسلوبه ساحر كمحامٍ كذاب ساحر يسحر القاضي بمقالاته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من البيان لسحرا) أي: من الكلام كلام سحر يغير لك الشيء عن حقيقته، فقد يكون الرجل بريئاً غاية البراءة، فيأتي محامي الخصم يتكلم فيجعله متلبساً بالقضية لا يستطيع التحرك منها، والعكس، فالقاضي يقضي على نحو مما يسمع، وليس له أن يحكم حتى بعلمه السابق، بل يحكم بالقرائن والبينات ولا يحكم بالظنون، كذلك الشهود يشهدون على نحو مما يرون، دون البناء على المخيلات والاستنباطات.
وكما أسلفنا ابتداءً: أن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من يقضي أحياناً قضاء لا يكون صواباً، فنبي الله داود عليه الصلاة والسلام لما اختصمتا إليه المرأتان في الطفل إذ كان لكل امرأة منهما طفلٌ فجاء الذئب وعدا على طفل أحدهما وهرب به، فبقي طفل واحد، فكل امرأة ادعت أن هذا الطفل لها، فتحاكمتا إلى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام، فجاء نبي الله داود يحكم والبينات غير واضحة، فقضى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام بالطفل للكبرى خطأً، لكنه مأجور عليه الصلاة والسلام، فخرجتا من عند داود وسليمان واقف على الباب فسألهما: لمن قضى بهذا الطفل؟ قالتا: للكبرى، فأتى بسكين وقال: نقطعه بينكما نصفين، فدب الحنان إلى قلب أمه الحقيقية فقالت: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فعلم بالقرينة أن هذا الطفل إنما هو للصغرى فحكم به لها.
فالقاضي قد يخطئ إما لعدم توفيق الله سبحانه وتعالى، أو لعدم توفر البينات، أو لعدم توفر العلم الكافي في بعض الأوقات، كما روي أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه رأى امرأة يسحبها الناس، فقال: ما هذه؟ قالوا: هذه مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم، فقال: على رسلكم، فذهب إلى عمر وقال: يا أمير المؤمنين! أما بلغك أن الحد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق.
؟ وذكر الحديث، فأمر عمر رضي الله عنه بإلغاء الحكم فلم ترجم المجنونة.
فعلى كل من يقضي بين الناس أن يجتهد قدر الاستطاعة، ويسأل ربه التوفيق والسداد، فالمسدد من سدده الله، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه فيقول: (اللهم إني أسألك السداد سداد السهم) .
قوله تعالى: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) أي: أنهم إذا أضلوك أضلوا أنفسهم بالدرجة الأولى، فمن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، وهذا على فرض أنه تم لهم الإضلال، ولكن لم يتم الله لهم نياتهم السيئة.