قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110] هنا فتح الله باب التوبة لمن أراد أن يتوب، وهذا مطرد كثيراً في كتاب الله عز وجل، فبعد أن تذكر العقوبات يفتح الله باب التوبة، كقوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:4] ثم فتح الله لهم باب التوبة فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5] أي: استغفروا الله فإن الله غفور رحيم.
فهذا حث للمذنب على التوبة، خاصة إذا كان ذنبه يلحق ضرراً بالآدميين، وقد نشرت بعض الجرائد مرة قضية تنم عن أن الإيمان موجود في قلوب ناس من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وإن اقترفوا الكبائر، ففي بعض البلاد قُتل رجل فاتهم شخص بأنه هو الذي قتله، فأخذ الشخص المتهم، والأصل أن يحكم عليه بالإعدام، وكان للمجني عليه طفل صغير، وإذا كان للمجني عليه طفل صغير فالمحكمة تنتظر حتى يبلغ الطفل، وبعد أن يبلغ يستشار: هل ترضى بقتل قاتل أبيك أو تعفو عنه أو تقبل الدية؟ وهذا لم يكن موجوداً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه بنى على حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فقالوا: هذا له حق في الميراث، إذ قد يطلب الدية، فله حق أن ينتظر حتى يبلغ، فجلس الرجل مسجوناً هذه المدة الطويلة إلى أن بلغ الولد الصغير، والأم تلقنه بقولها: كيف يقتل أبوك؟! فأتي به، فقيل له: ماذا تريد من قاتل أبيك: أيقتل أو تعفو أو تقبل الدية؟ فقال: يقتل.
فجاء يوم الجمعة -والقتل عندهم يكون يوم الجمعة- وأخذ المتهم كي يقتل، وفي ساحة القتل والناس تنظر أتى بالرجل الذي يقوم بالقصاص آخذاً بثوبه من ظهره، فأوقف المتهم كي يضربه، وفي هذه اللحظة قام أربعة أشخاص، فقالوا: نحن الأربعة القتلة، ونحن الذين قتلناه فلا نريد أن نتحمل إثمين، إثم قتل النفس الأولى، وإثم قتل هذا البريء ويتم أطفاله، فقام الشخص وقدم الأربعة للمحكمة وقتلوا، ورضوا بهذا خشية من عذاب الله سبحانه بتعذيب شخصين.
يقول رب العزة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110] ، فأي ذنب كان -يا عباد الله! - فإن رب العزة إذا علم من صاحبه صدق التوبة إليه يغفره له ويتجاوز عنه.
قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:111] هذه الآية كقوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] .
قال تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) وهذا جرم آخر، أن يرتكب جريمة ويلصقها بغيره وهذا قد قال الله فيه: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:112] فلم يقتصر على كونه احتمل بهتاناً فحسب، بل احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، والبهتان: هو الكذب والزور، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) أي: رميته وذكرته بما يكره كاذباً عليه، فأنت لم تذكره بما يكره وهو فيه فقط، وإنما ذكرته بما يكره وافتريت عليه في هذا الذي ذكرت.