يقول سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي: في أحسن صورة، وأكمل خلق، وأحسن استقامة واعتدال، وأحسن قوام، وأجمل منظر، فليس هو كالدواب التي تمشي على بطنها، ولا كالأنعام التي تمشي على أربع، إنما خلق الإنسان في أحسن تقويم، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ما المراد بأسفل سافلين؟ لأهل العلم أيضاً فيها قولان مشهوران: القول الأول: أن المراد بـ ((أَسْفَلَ سَافِلِينَ)) أي: قلبناه على وجهه في النار في أقبح صورة، فعلى ذلك يكون المراد بالإنسان هنا: الإنسان الكافر، فالمعنى: لقد خلقنا هذا الإنسان الكافر في أحسن تقويم، ثم بعد ذلك لما لم يؤمن ولم يشكر؛ قلبناه على وجهه في النار في أقبح صورة.
فهذا قول لكنه ليس بالقول الأشهر، وليس عليه الأكثر.
والأكثرون على أن المراد بـ (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أرذل العمر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:70] ، وكما قال سبحانه: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68] ، فمعنى قوله: (أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي: إلى أرذل العمر، وهنا يقول الشاعر: يود الفتى طول السلامة والغنى فكيف ترى طول السلامة يفعل يكاد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا رام القيام ويحمل فبعد أن يكون في أحسن تقويم يبدأ بالتمايل وانحناء الظهر، فالمراد بالإنسان على هذا التأويل: عموم الإنسان (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ) أي: كل الإنسان، (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي: في أعدل خلق، وأحسن قوام، ثم بعد ذلك (رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي إلى أرذل العمر، فبدأ هذا القوام الجميل المستقيم في الانحناء والرجوع.
لكن يرد على هذا الوجه من التأويل إشكال وهو: أن الله قال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ؛ فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات استثناء، ومن المعلوم أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الآخرون ينكسوا في الخلق، وينحنوا كما ينحني غيرهم، ويكبروا كما يكبر غيرهم، فكيف توجه هذه الآية: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ؟ أجاب الذين اختاروا هذا التأويل على هذا الإشكال بقولهم: إن قوله تعالى: (إِلَّا) بمعنى لكن، فالمعنى: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غير ممنون، واحتاجوا مع هذا إلى أن يقدروا محذوفاًَ في الآية الكريمة، فقالوا: إن في الآية محذوفاً يفهم من السياق، فالمعنى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، أي: في أحسن صورة، وأعدل قوام، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي: إلى أرذل العمر، حيث الكبر والتخريف، فلما يكبر ويخرف ينقطع عمله ولا يقبل، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تنقطع أجورهم، فهم وإن ردّوا إلى أرذل العمر، وانقطعت أعمالهم، ولم يستطيعوا القيام بما كانوا يقومون به من أعمال صالحة؛ مع ذلك كله لا تنقطع أجورهم فهم: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ، أي: غير مقطوع، ولا منقوص.
وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في صحيحه: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من الأجر ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) ، فقال هؤلاء العلماء: إن قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) معناه: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات انتظروا وضعفت صحتهم، وخارت قوتهم، وانحنت ظهورهم، ولا تنقطع أجورهم؛ بل تثبت لهم الأجور وإن ضعفوا عن العمل الذي كانوا يقومون به، وذلك على خلاف الكافر.