وهنا يرد مبحث -وقد سيق من قبل-: ما هو حكم الدعاء بعد الصلاة؟ وهل هو مشروع أو غير مشروع؟ وفي الحقيقة أن هذا يجرنا إلى تنبيه لإخواننا طلاب العلم الذين يقرءون الكتب المعاصرة، الصحوة المعاصرة اتجهت في كثير من خطواتها إلى كتب أهل علم أفاضل، كـ الشوكاني والصنعاني وابن حزم رحمهم الله، وبعض كتب الأفاضل المتأخرين كالشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، ولكنهم تركوا التوغل والبحث في كتب الأوائل، كالإمام الشافعي وكالإمام مالك وكالإمام أحمد وغيرهم من الأئمة، فكان جديراً بهؤلاء الإخوة الذين اتجهوا إلى طلب العلم أن يتجهوا أيضاً إلى كتب الأوائل، ويظهروا استنباطات هؤلاء الأفاضل، ولا يبخسوهم حقوقهم، كما أنهم لا يبخسون الأواخر حقوقهم كذلك.
فمثلاً: مسألتنا هذه: الدعاء بعد الصلاة، غالب المصادر التي يقرأ منها الإخوة الآن، وأقربها إلى أيديهم كتاب زاد المعاد لـ ابن القيم رحمه الله تعالى، وأنعم بـ ابن القيم، فهو من أهل العلم والفضل، وله من المنزلة والمكانة مالا يخفى عليكم، لكن ليس هو الفاضل وحده، فهناك فضلاء آخرون ينبغي أن تقرأ أقوالهم وأن تسمع أخبارهم، وأن ينظر في أدلتهم كذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] .
وفي الحقيقة أن ذكرنا لمسألة الدعاء بعد الصلاة إنما هو فقط من باب عدم الإنكار والتشديد في الإنكار على من خالفك في الرأي إذا كانت عنده أدلة ثابتة يستدل بها، فمن الناس من يقول: إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع واستدل هذا القائل بأمور: أول الأمور التي استدل بها: حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته لم يقعد في مصلاه إلا بقدر ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!) هذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني -وهو من ناحية النظر- قالوا: كيف تترك الدعاء أثناء الصلاة، وأنت قريب من ربك، ومقبل على ربك، ثم تدعو الله بعد الانصراف من الصلاة؟! ومن أدلتهم -وقد بالغوا في ذلك- أنهم قالوا: إنه لم يثبت عن النبي أنه دعا بعد الصلاة، وهذا هو الدليل الثالث.
ولما أوردت عليهم بعض الإيرادات، قالوا: إن دبر الشيء منه، فالأحاديث التي ورد فيها أن النبي كان يدعو دبر الصلاة، فدبر الصلاة قبل التسليم عندهم، هذا مجمل ما استدل به القائلون بمنع الدعاء بعد الصلاة.
أما الذين قالوا باستحباب الدعاء بعد الصلاة، فلهم جملة أدلة، والصراحة أنها أصرح، ومن ناحية الصحة فهي صحيحة كذلك، فمن أدلتهم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم- قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال: اللهم! اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت) فقالوا: هذا دليل على الدعاء بعد التسليم.
والدليل الثاني: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: (كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه كي يلتفت إلينا إذا سلم، فسمعته يقول: رب! قني عذابك يوم تبعث عبادك) .
والدليل الثالث: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنهما: (يا معاذ! والله! إني أحبك، لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: رب! أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) .
والدليل الرابع: ما ورد عن سعد بن أبي وقاص في صحيح البخاري أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الصبيان، ألا وهي: اللهم إني أعوذ بك من البخل، -والاستعاذة دعاء- وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر.
الدليل الخامس: حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الدعاء دبر الصلوات المكتوبات) لكن هذا الحديث الراجح فيه الإرسال، فهو من طريق عبد الرحمن بن ثابت عن أبي أمامة، وهو لم يسمع من أبي أمامة، هذا الحديث على وجه الخصوص لا يصح.
الدليل السادس: (أن النبي كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً) ، والاستغفار معناه: رب! اغفر لي، رب! اغفر لي، فهو دعاء.
الدليل السابع: أن الدعاء يشرع بعد الأعمال الصالحة، كحديث: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك) ، والرجل الذي أذنب ذنباً أُمر أن يتوضأ ويحسن وضوءه ويصلي، وفي صلاة الاستسقاء أو صلاة الخسوف أو صلاة الكسوف تدعو الله وتستغفر الله وتتصدق، ومن الأدلة كذلك هذه الآية (إذا فرغت فانصب) على التفسير الذي سمعتموه.
فهذه أدلة القائلين باستحباب الدعاء بعد الصلاة، وأجابوا على القائلين بأن دبر الشيء منه فقالوا: نعم قد يكون دبر الشيء منه، فدبر الدابة منها، وقد يكون دبر الشيء خارجاً عنه، والدليل على ذلك، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (معقبات لا يخيب قائلهن، ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وثلاث وثلاثون تكبيرة، دبر كل صلاة) .
ولا أعلم خلافاً أن التسبيحات والتحميدات والتكبيرات إنما تكون بعد الصلاة، فهذه أدلة القائلين بأنه يشرع الدعاء بعد الصلاة.
وتوسط قوم فقالوا: يشرع الدعاء لكن بعد ذكر، ما يدعو مباشرة بالصلاة، ولكن بعد الصلاة يذكر الله ثم بعد الذكر يأتي بالدعاء، وهذا القول قول لا طائل تحته، وإن تقلده بعض الفضلاء، ومال إليه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، لكنه لا طائل تحته؛ لأن الرسول كان إذا انصرف من صلاته استغفر، ولم يرد أنه ذكر ثم استغفر، والاستغفار نوع دعاء.
وهل هذا الدعاء جماعي؟ لم يرد أنه جماعي، بل يدعو كل شخص بما تيسر له.