وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:49] ، التزكية مذمومة في الأصل، ولا يزكي الإنسان نفسه ولا غيره إلا لعلة، والأدلة على ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، فقد أثنى رجلٌ على رجلٍ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك-قالها ثلاث مرات- إن كان أحدكم لا محالة فاعلاً فليقل: أحسب فلاناً كذا وكذا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (احثوا في وجوه المداحين التراب) ، خاصةً الذين يبالغون في الثناء على الأمراء والرؤساء.
وهذا الحديث استعمله المقداد بن الأسود لما كان جالساً عند أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وجاء رجلٌ يثني على أمير المؤمنين ثناءً زائداً في وجهه، فأخذ المقداد الحصباء وقذف بها في وجهه، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (احثوا في وجوه المدّاحين التراب) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله) .
فالمبالغة في الثناء قد تخرج الشخص عن حيز الاعتدال إلى حيز الذم، وهؤلاء النصارى لما بالغوا في إطراء عيسى عليه الصلاة والسلام والثناء عليه أَلَّهوهُ وجعلوه ابناً لله عز وجل، والشيعة لما بالغوا في الثناء على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أَلَّهه فريق، وزعم فريق آخر أن علياً رضي الله عنه أحق بالرسالة من محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فالمبالغة في الثناء، والمبالغة في الإطراء، والمبالغة في التقليد تورث الشخص انهياراً وهزيمةً وعصياناً لله تعالى ولرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
والظواهر التي بين أيدينا في الأزمنة المعاصرة شاهدة بذلك، وما كان عقب وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام أيضاً يدل على ذلك، فـ المختار بن أبي عبيد الثقفي ادعى نصرته لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعه الناس واغتروا به، وصاروا يمجدونه ويمدحونه حتى آل به ذلك إلى أن ادعى النبوة، ثم ادعى الألوهية! فقتل إلى غير رحمة الله عز وجل.
فالمبالغة في الثناء على الأشخاص أحياناً تورث شركاً، وأحياناً تورث ضلالاً مبيناً، ومن ثمّ فينبغي أن يتوسط الشخص في كل أموره وأحواله، وهذا يلحق طلاب العلم، فيلزمهم ألا يأخذوا العلم من شخص واحد أياً كان شأنه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي لا ينطق عن الهوى، أما أن يأخذ شخص أقوال عالم من العلماء، ويسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويصبح له مقلداً أعمى، ويتقبل كل آرائه، فهذا يورث تقليداً بغيضاً مقيتاً، ويوقع الشخص في كل الأخطاء التي وقع فيها هذا الشيخ، وأصحاب رسولنا عليه الصلاة والسلام رغم فضلهم وسعة علمهم رضي الله تعالى عنهم ما طلبوا ذلك من الناس، وكلٌ منهم صدرت منه اجتهادات جانب فيها الصواب، فإذا كانوا كذلك فغيرهم من باب أولى، فمن جاءك بالدليل من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقبله وخذه.
وقوله تعالى: {يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء:49] ، الآية محتملة لأن يكون المعنى: يزكون أشخاصهم، أو يزكون غيرهم كقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] ، من العلماء من قال أي: لا يزكي بعضكم نفسه، ومنهم من قال: ولا يزكي بعضكم بعضاً، وإطلاق النفس على الغير وارد في كتاب الله تعالى، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: على إخوانكم.
وقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: لا يلمز بعضكم بعضاً.
وقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] أي: يقتل بعضكم بعضاً.
فالتزكية الأصل فيها المنع إلا لعلة، ومن هذه العلل أن تكون التزكية حافزة على الخير، كما لو كان الرجل يُعلم من حاله أنه إذا أثني عليه بكلمة تشجع واستمر في الخير الذي هو فيه، فإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ إذا زكي هذا الشخص حتى يستمر في الخير الذي هو فيه استحب ذلك، وقد دلت على ذلك جملة نصوص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كقوله صلى الله عليه وسلم لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الشيطان يفر منك يا ابن الخطاب!) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أتيت بقدح لبن فشربته ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب.
قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت الناس وعليهم قمص، فمنهم من يبلغ القميص إلى ثدييه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم ما بين ذلك ورأيت عمر وعليه ثوب يجره.
قالوا: فما أوَّلْت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين) .
وقال صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه) .
وقال صلى الله عليه وسلم في شأن أبي بكر: (ما أحدٌ أمنّ عليّ في صحبته وماله من أبي بكر الصديق) رضي لله تعالى عنه.
وقال في أبي ذر رضي الله عنه: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر) ، وكل ذلك من الثناء.
وقال عثمان رضي الله تعالى عنه مثنياً على نفسه أمام الذين حاصروه: ألم تسمعوا رسول الله وقد قال: (من حفر بئر رومة فله الجنة) فحفرتها؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهّز جيش العسرة فله الجنة) فجهزته؟ فكل هذا يدل على مشروعية التزكية إن احتيج إليها، فإن لم يحتج إليها فالمنع هو الأولى -والله تعالى أعلم- لما فيه من قطع الأعناق.
وقد درج بعض السلف على إطلاق ألقاب على بعض أهل العلم في أزمانهم، وتبعهم ذلك بعض الخلف ولا بيان لهم من كتاب الله تعالى، أو من أفعال أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يؤيد هذا المستند، كأن يقول أحدهم: العالم الفذّ، الحجّة، وحيد دهره وسيد عصره، ويسطر سطوراً في الثناء، ولا يقول مثل هذا في أبي بكر، ولا في عمر رضي الله تعالى عنهما ولا في التابعين! فالإطراء البالغ بهذه الصورة أقرب إلى الذم منه إلى المدح، والله تعالى أعلم.
قال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] فهذا الأمر متروكٌ لله سبحانه وتعالى فهو الذي يرفع ويخفض.
وقوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:49] أي: لا تظنون أنكم بترككم تزكية بعضكم أن بعضكم سوف يظلم، بل الله سبحانه وتعالى يدخر الأجور للعاملين، فهو أعلم، وهو الذي يجازي، وهو الذي يثيب سبحانه وتعالى.
والفتيل: هو الخيط الرفيع الذي يكون بين فلقتي نواة التمر، فقوله تعالى: (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي: قدر الفتيل.
قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء:50] ، أي: هؤلاء الذين يزكون أنفسهم كثير منهم يفترون على الله الكذب، {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء:50] ، وهذه في شأن أقوام دون أقوام آخرين على ما سيأتي بيانه.