قال تعالى: {فَذَكِّرْ} [الأعلى:9] (ذكِّر) يعني: عظ، ففيه حث على الوعظ، وهذا مسلك الأنبياء عموماً ومنهم: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال العرباض بن سارية: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) ، وكان موسى عليه الصلاة والسلام يعظ بني إسرائيل، فوعظهم مرة موعظة حتى بكوا منها واخضلت لحاهم بدموعهم، ورب العزة قال: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] فالموعظة مسنونة، لكن ينبغي ألا يكثر في الوعظ.
قال أهل العراق لـ ابن مسعود: لماذا لا تعظنا -يا ابن مسعود - أكثر مما تعظنا؟ قال: إني أكره أن أُملكم، إنما أتخولكم بالموعظة كما كان النبي يتخولنا صلى الله عليه وسلم بالموعظة، وكان ابن مسعود يحدثهم كل خميس.
فإذا قال قائل: فلماذا دروس العلم تقام يومياً؟ فالإجابة: هناك فرق بين العلم وبين الوعظ، فالوعظ: جانب من جوانب العلوم، لكن هناك علوم وفرائض يجب أن تُتعلم.
يقول الله سبحانه: {فَذَكِّرْ} أي: فعظ وخوف، ورغب ورهب.
{إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] ، ما معنى (إن) في هذا المقام؟ من العلماء من قال: (إن) بمعنى (قد) ، فالمعنى: فذكر فقد تنفع الذكرى.
ومن العلماء من قال: هنا مقدر محذوف، والتقدير: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع.
ومن أهل العلم من قال: (إنْ) في هذا المقام بمعنى: (حيث) ، فالمعنى: فذكر حيث تنفع الذكرى، فعلى هذا الأخير لا تكون التذكرة إلا إذا ظن الشخص أنها ستنفع، أما إذا ظن الشخص أن التذكرة ستسبب بعداً عن الدين أو سباباً للدين؛ فالأولى الإمساك عنها.
أي: إذا كان الواعظ يظن والتذكرة ستنفع هذا الشخص، أو إذا لم تنفعه التذكرة فلن يأتي منه شر؛ فحينئذ يذكره، لكن إذا كان الشخص يتوقع من حاله أنه إذا ذكر سب الدين، ففي هذه الحالة يمسك عنه؛ لأن التذكرة ستؤدي إلى مفسدة أعظم من حاله التي هو عليها، فمن العلماء من قال: (إن) هنا بمعنى: (حيث) ، وهذا له شواهد في اللغة والشرع، فالوعظ قد يمسك عن التذكرة لأقوام خشية أن ينالوا الشرع بسوء، فمن الناس من إذا جئت تذكره يسب السنة والدين!! ففي هذه الحالة الإمساك عن تذكرته أولى وأنفع، وبعض العلماء -كما سمعتم- يقول: (إن نفعت الذكرى) بمعنى: (حيث تنفع الذكرى) ، ومنهم من يقول: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع، ممكن تقول لواحد شقي: افعل كذا وكذا، فيقول لك: تعلمني يا ابن الكلبة!! ويشتم.
{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:10-11] أي: سيتعظ من يخاف الله، ويتجنب هذه التذكرة الشقي الذي كتب في علم الله أنه سيموت على الكفر.
{سَيَذَّكَّرُ} [الأعلى:10] أي: سيتعظ وينتفع بالتذكرة من يخشى، {وَيَتَجَنَّبُهَا} [الأعلى:11] يبتعد عنها وعن الانتفاع بها الأشقى.
قال فريق من أهل العلم: المراد بالأشقى: الكافر الذي سبق في علم الله أنه سيموت على الكفر، والتقييد بما سبق في علم الله؛ لأن هناك كفاراً انتفعوا بالذكرى، فالصحابة كانوا كفاراً، ولما ذكرهم الرسول عليه الصلاة والسلام تذكروا.
{الَّذِي يَصْلَى} [الأعلى:12] أي: يدخلها يصلي بحرها، ويذوق هولها.
{الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12] لماذا وصفت النار بأنها كبرى؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ناركم التي توقدون عليها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم!) .
{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13] أي: لا هو بميت فيستريح، ولا هو بحي يحيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت في صورة كبش، فيوقف على قنطرة بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، فيقولون: نعم هذا الموت، وينادى: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار) ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39]-الذي هو ذلك اليوم- {إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39-40] فالحسرة متعددة على الكافر، يوم موت الكافر يوم حسرة عليه، فبعد الموت لا مجال للتوبة، ويوم ذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار يوم حسرة أيضاً على الكفار، فبعد ذلك لا مجال أبداً للرأفة ولا للرحمة ولا لأي شيء.
{ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} كما قال تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36] .