قال تعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:3] من العلماء من قال: المعارج هي الدرجات، والفواضل، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في تلبيته يقول: (لبيك ذي المعارج، لبيك ذي الفواضل) فالمعارج تطلق على الدرجات، وهي مستفادة من قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] أي: تصعد، وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14] أي: يصعدون، وأيضاً عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، أي: صعد به إلى السماوات السبع.
قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج:4] أي: تصعد، والملائكة معروفون، أما الروح فللعلماء فيها أقوال، أحدها قول جمهور من المفسرين: أن المراد بالروح هو جبريل عليه السلام، وشاهده: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] ، فإن قال قائل: إن جبريل دخل ضمناً في الملائكة فما فائدة الإعادة: (تعرج الملائكة وجبريل) ؟
صلى الله عليه وسلم أن هذا من باب عطف الخاص على العام، لبيان فضل هذا الخاص المعطوف، فذكر جبريل مرة ثانية لبيان فضله.
فإن قال قائل: وهل من أمثلة في كتاب الله تظهر أن الخاص يعطف على العام، كهذا المثال؟ فالإجابة: نعم، فإن الله يقول: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [النساء:163] فإبراهيم وإسماعيل من النبيين الذين جاءوا من بعد نوح، ونحوه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] فنوح من النبيين، ونحوه قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] النخل والرمان من الفاكهة.
فذكر جبريل عليه السلام الذي هو الروح بعد ذكر الملائكة؛ لبيان فضل جبريل عليه السلام، فهو سيد الملائكة، وهذا قول الجمهور.
القول الثاني في تفسير الروح: وهو أن الروح هي أرواح بني آدم التي تخرج منهم عند موتهم، كما في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل: (إن العبد إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا أتته الملائكة، فيأخذون روحه، فيأتي ملائكة آخرون يجلسون منه مد البصر فلا يدعونها في أيديهم طرفة عين، فيأخذونها ويعرجون بها إلى السماء، فلا يمرون بها على ملأ إلا قالوا: ما هذه الروح؟) الحديث.
القول الثالث: أن المراد بالروح خلق لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] هذه الآية من الآيات المشكلة في تفسيرها؛ لورود آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فكيف التوفيق بين الآيتين؟ أولاً: بين يدي هذا التوفيق يقال: ما المراد باليوم في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ؟ المسلك الأول: من أهل العلم من أضرب عن التفسير وأضرب عن الجمع بين اليومين، وقال: هما يومان ذكرهما الله سبحانه وتعالى في كتابه هو أعلم بهما ونكل أمرهما إلى الله، فهو أعلم بقوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] وأعلم بقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] .
وقال: نسكت عن هذين اليومين مع إيماننا أن هذا وذاك، كل من عند الله سبحانه وتعالى.
والمسلك الثاني: هو الجنوح إلى الجمع بين الآيات، وندفع الافتراض الذي قد يأتي إلى العوام، وأصحاب هذا المسلك التمسوا تفسيرات وتوجيهات، فمنهم من قال: إن اليوم المراد في قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] هو عمر الحياة الدنيا، منذ خلق آدم إلى النفخ في الصور ومدته خمسون ألف سنة.
ومنهم من قال: إنها المسافة ما بين السماء السابعة إلى الأرض السابعة، أنتم تقطعونها في خمسين ألف سنة، أما الملائكة فتصعد فيها وتنزل في يوم واحد من أيامكم، كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة الفجر والعصر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم: كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) .
فقال قائل هذا القول: إن الملائكة تعرج ما بين الفجر إلى العصر، وهذا العروج منها لو قطعتموه لكانت المدة الزمنية خمسين ألف سنة.
ومنهم من قال: إن المراد بقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] : إنه يوم القيامة، وهذا أظهر الأقوال وأشهرها، وهو الذي تدل عليه أدلة السنة، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته صفحت له صفائح من نار يكوى بها وجهه وجبينه وجلده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) ونحوه: (من آتاه الله إبلاً فلم يؤد زكاتها إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر، تمر عليه أولاها تنطحه بقرونها وبأظفارها، كلما مرت عليه أولاها عادت أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم ينظر بعد ذلك مقعده من الجنة أو مقعده من النار) .
فإذا تقرر أن المراد باليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة هو يوم القيامة وهو الراجح لدلالة الآية عليه وهي قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6-7] فإذاً: كيف يجمع بين الآيتين؟ من العلماء من قال: إن يوم القيامة يخفف على أهل الإيمان ويطول على أهل الكفر والعصيان كل بحسبه، فيكون عسيراً وطويلاً على أهل الكفر، أما على أهل الإيمان فيكون خفيفاً، فيختلف في الطول وفي القصر حسب حال العبد يوم القيامة، فأهل الجنة لا يأتي عليهم وقت القيلولة إلا وهم يقيلون في الجنة ما شاء الله، ولا يمر عليهم اليوم كله بطوله، فإن الله قال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] أي: قيلولة.
فيوم القيامة يخفف على أقوام، ويطول ويكون عسيراً على أقوام آخرين.
والشاهد لذلك قوله تعالى: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:10] وهذا قول له وجاهته، وتبناه كثير من أهل التفسير.
وقد ورد في الباب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل فقراء المهاجرين قبل الأغنياء بنصف يوم بخمسمائة عام) والله تعالى أعلم.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6-7] لأن كل ما هو آت فهو قريب، وتقديراتنا ليست كتقديرات رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] أي: كالزيت المغلي، أو النحاس المنصهر.
قال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:9] أي: كالصوف، وفي الآية الأخرى: {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5] أي: الصوف المتفتت الملون.
قال تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:10] الحميم هو الصديق شديد الصداقة، الذي يغلى من أجلك، ومنه قيل له: حميم؛ لأنه يحتر حرارة شديدة إذا أصبت بأي مكروه، أو نيل منك بأي سوء تراه، فكأنه يصاب بالحميم ويُغلى إذا ذكرت بسوء.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج:10-11] أي: الحميم يرى حميمه، والصديق يرى صديقه، والقريب يرى قريبه، وهذا مضمن في قوله تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج:11] أي: يرونهم.
فكل يرى صاحبه لكن لا يستطيع الكلام ولا السؤال عنه ولا عن أحواله، فكل مشغول بالهم الذي هو فيه.
كيف يجمع بين الآية الكريمة: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:10] ، وبين قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50] ؟ فهذه آيات تكون ظواهرها متعارضة لكن ليس في كتاب الله تعارض، فهو من عند الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] .
وعلى نمطها، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] ، وفي المقابل: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108] .
وعلى نمطها أيضاً: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] ، {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] فقد كتموا الشرك وكذبوا، فكيف يجمع بين هذه الآيات؟ نقول: كما هو معلوم أن يوم القيامة طويل تتعدد فيه المواقف، فأحياناً يسكت الكل، وأحياناً يؤذن للبعض بالكلام، وأحياناً يعتذر المعتذرون، وأحياناً لا تقبل منهم العتبى، وهي: {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24] ، أحياناً يجادلون بالباطل، وأحياناً يرون أن الجدال لا ينبغي إلا أن يكون بالحق، فلطول اليوم تتعدد مواقفه وتندفع كل الإشكالات التي وردت في هذا المعنى.
ومن مثل هذا يجاب على جل الآيات