قال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] ، قال كثير من أهل العلم: السلسلة طولها سبعون ذراعاً.
فهل هو بذراع الدنيا أم هو مقياس آخر في الآخرة، قال كثير من العلماء: إنها ثلاثة أذرع أخرى غير أذرعة الدنيا وأطول؛ لأن ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وضرسه كجبل أحد.
قال كثيرٌ من أهل التفسير: تدخل هذه السلسة من أنفه وتخرج من دبره.
جنازير حديدة من نار، تدخل من الأنف وتخرج من الدبر، فضلاً عن الذي وقع في الأعناق -على ما قد تقدم- فتخيل كيف يكون هذا السجن، سلسلة تدخل من الأنف فتتخلل الأمعاء وتخرج من الدبر، ويسحب منها، ويسحب أيضاً من تلكم السلاسل التي في الأعناق: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30-32] .
لم هذا الجزاء القاسي؟ قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33] ، كان يستهزئ بالله وبآياته، ويشرك معه غيره: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة:33-34] ، كان قاسياً على العباد، فهو كافر وفي قلبه قسوة، {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .
قال ابن يحيى: إنه ينبغي لك يا مؤمن أن تطعم المساكين، وأن تحض الناس وتحثهم على إطعام المساكين.
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} [الحاقة:35] ، أي: صاحب، كما قال في الآيات الأخرى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100-101] ، فليس له صديق يغضب من أجله، ولا يزأر من أجله ولا يحتر من أجله، ويطلق لفظ (الحميم) على الصديق شديد الصداقة، فهو صديق حميم لكثرة تأثره بما يحدث لك.
{وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36] ، الغسلين: هو صديد أهل النار كما قال فريق من أهل التفسير.
قال تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37] ، ما المراد بالخاطئين؟ (الخاطئون) لفظٌ عام، ولكنه أحياناً يأتي ويراد به بعض أفراد الخصوص كمثل (المسيئون) ، فهو لفظ عام وأحياناً يأتي ويراد به شيء أخص، وكاصطلاح السيئة اصطلاحاً خاصاً، فالسيئة كما أسلفنا تطلق على الشرك: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81] ، فالسيئة هنا أوجبت الخلود، فهي الشرك، والسيئة بمعنى الكبيرة في شأن قوم لوط: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78] أي: من الكبائر، والسيئة تأتي بمعنى: الصغيرة: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، أي: إذا اجتنبتم الكبائر كفرنا عنكم الصغائر، وكذلك الخاطئة أو الخطيئة تأتي أحياناً بمعنى الصغيرة، وتأتي أحياناً بمعنى الكبيرة، وتأتي أحياناً بمعنى الشرك، قال تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} ، أي: بالكفر وبالكبائر.
قوله تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} ، (الخاطئون) : هل يراد بهم الكفار، أو يراد بهم المسرفون على أنفسهم من أمة محمد الذين لم يغفر لهم؟ في المسألة وجهان: فمن العلماء من قال: (الخاطئون) : المشركون.
ومنهم من قال: (الخاطئون) : المذنبون.
أي: المذنبون الذين لم يغفر لهم أو الذين قد غلبت سيئاتهم حسناتهم، كما في حديث المفلس وغيره من الأحاديث.