حكم ما ورد من الآثار والقصص عن السلف في الزهد ونحوه وهي لا توافق السنة

Q بعض الآثار التي ترد عن السلف الصالح رحمهم الله يكون فيها أحياناً مصادمات لما ورد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كآثار وردت عن بعض التابعين وبعض السلف الصالح أنه كان يختم القرآن في كل ليلة، أو يقرأ القرآن في ركعة، أو أن بعض الصحابة كانت على خدودهم خطوط من الدموع، يقول السائل: ماذا نفعل أمام هذه الآثار وأمام الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

صلى الله عليه وسلم في الحقيقة أنه سؤال حسن ومن الأهمية بمكان؛ لأن إخواننا الوعاظ والمحاضرين كثيراً منهم يتوسع في هذا الباب توسعات تؤخذ عليه لا له.

هذه الآثار التي وردت عن السلف الصالح رحمهم الله هي جملة آثار في عدة أبواب: منها: أن بعض السلف كان يضع حصاة تحت لسانه حتى لا يكثر الكلام، وفي بعض الآثار أن بعض السلف كانت على وجهه خطوط من أثر الدموع، وأن واحداً مثلاً كان يجوع وما كان عنده وقت يأكل، ومثل هذا أشياء كثيرة جداً.

وإذا جئت تزن هذه الأشياء على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام تجد: أولاً: أن الرسول خير الخاشعين وخير البكائين لله سبحانه، فهو سيد ولد آدم، وهو أخشى الناس وأتقاهم لله، ومع ذلك لم يكن على خده خطوط من مجرى الدموع صلى الله عليه وسلم، أيضاً كان أشد الناس انشغالاً بالدعوة إلى الله، ومع ذلك لم يأت أنه ترك الطعام لعدم وجود الوقت، وكان كلامه من جوامع الكلم، ومع ذلك لم يأت بحصاة يضعها تحت لسانه حتى لا يتكلم، إلى غير ذلك مما ورد من أشياء يتعجب الشخص إذا سمعها، فهذه الأشياء على أقسام: منها أشياء ثبتت السنة على خلافها أو السنة تضادها في الأصل، فإذا كانت هذه الأشياء تخالفها السنة أو تضادها في الأصل فلا تعتبر من أي شخص كان، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أبداً أي هدي بهدي رسول الله، فالرسول مثلاً قال في شأن القرآن: (اقرأه في ثلاث ولا تزد على ذلك) هنا نمتثل هذا الهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقرؤه في ثلاث ولا نزيد على ذلك، وإن ورد عن غيره أنه زاد فله اجتهاده الخاص به، ونعتذر له حتى لا يُنال منه، وحتى تحفظ له وجاهته ويحفظ له رأيه، لكن المتبع عندنا هو كلام رسولنا وهدي رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فالآثار التي فيها مخالفات صريحة لسنة الرسول، فنحن ابتداءً وانتهاءً مع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

ثانياً: أما الآثار الأخرى التي ليس فيها مصادمات مع السنة، فهذه ورد فيها كثير من هذه الآثار، ولا أعني الأثر بعينه، إنما أعني كثيراً من هذه الآثار: كمن كان له حصاة يضعها تحت لسانه حتى لا يتكلم، فهذه لا أعلم لها إسناداً صحيحاً أصلاً، ولا نعلم لها أسانيد ثابتة، فربما قرأها شخص في كتاب، وليس كل ما قُرئ في كتاب صحيحاً، فعلى شرط أهل الحديث نادراً ما يصح أثر من هذه الآثار، وإذا لم يصح فما فائدة الحديث به.

ثالثاً: لابد من تخريج هذه الأعمال حتى على فرض صحتها، فأنا مثلاً ممكن في أي وقت من الأوقات آخذ مسألة علمية وأحرر هذه المسألة العلمية تحريراً، والمسألة شاغلة ذهني شغلاً زائداً، أجوع فآكل وعندما أكون في الأكل أذكر ما يخدمني في المسألة فأترك الأكل وأرجع، فأحياناً المرق أحسن لي من اللحم الذي يؤخرني، فتكون حالة عرضت لي فلا أجعلها تأسيساً يؤسس عليه العمل كله، ولا تكون قاعدة يسار عليها أبداً.

فإذا جاء واحد من إخواننا الأفاضل أو العلماء يدرس هذه المسألة، أو يحث مثلاً على اغتنام الأوقات أو الحرص على الأوقات إذا به يذكر أن من السلف من كان يأكل السمكة بدون أن يطبخها! وهذه حالة حصلت وممكن أن تحصل، مثلاً: مهندس كان يرسم لوحة وذهنه مشغول جداً بها فربما يفعل هذا، لكن ليس معنى هذا أنه كل يوم يأكل السمك هكذا، أو طبيب يقوم بإجراء عملية جراحية، ومن الخطر أنه يترك العملية ويمشي، واستمرت معه عشر ساعات أو عشرين ساعة، فالشرع يجوز له أن يجمع بعض الصلوات عند الضرورات القصوى، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس؛ ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً) .

فلا تأخذ أي قول وتجعله قواعد تسير عليها، نحن عندنا سيرة الرسول خير سيرة، مثلاً: ذهب شخص إلى مجلس من المجالس وهو ذاهب متوقع أن هذا المجلس سيحدث به اغتياب مثلاً، أو تحدث به مشكلة أو أي شيء، فقال: ماذا أفعل حتى لا أتكلم في مثل هذا المجلس، وأنا ضعيف وأخشى أن أغلط؟ كما قالت عائشة رضي الله عنها لما خرجت مع الرسول عليه الصلاة والسلام مسافرة، فقالت لها حفصة من باب الاحتيال كي تمكث مع الرسول: (يا عائشة! ألا تركبين بعيري وأركب بعيركِ تنظرين وأنظر -لأن الرسول كان يحب أن يركب مع عائشة - قالت: نعم أركب، فركبت عائشة بعير حفصة وحفصة ركبت بعير عائشة، فجاء الرسول إلى بعير عائشة ودخل على الهودج فإذا بـ حفصة، فاستحى الرسول أن يخرج، فبقي مع حفصة في السفر كله، وعائشة تقول: ماذا أصنع؟ فكانت تضع رجليها في الأرض وتقول: يا رب سلط عليَّ عقرباً تلدغني، نبيك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً، فكانت تنفعل وتدعو على نفسها بأي شيء يحدث لها حتى لا تؤذي الرسول، فأنا لا آخذ من فعلها مشروعية الدعاء على النفس.

فلا تأخذ هذه الآثار وتؤسس عليها قواعد، فإنك إذا أسست عليها قواعد خالفت سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكثير من هذه الآثار مخارجها لا تتبين، فلابد أن تخرج هذه الأشياء وتوضح للناس حتى لا تفهم على غير وجهها، والله أعلم.

أحياناً بعض إخواننا يفهم أشياء خطأ، ويطبق خطأ، مثلاً من الملاحظات التي رأيتها مع بعض الإخوة الحريصين على السنة في الظاهر: أنا خرجنا مرة إلى بعض البوادي في بعض الدول، ونحن نقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام في شأن العرنيين الذين أتوا إلى المدينة وأمرهم الرسول عليه الصلاة بأن يخرجوا إلى إبل الصدقة ويشربوا من ألبانها وأبوالها، فقام إخواننا الذين يشتكون البطون والذين لا يشتكون، وكلهم أتى بقدر ووضعه تحت الناقة وهي تبول، وأخذ البول وشرب.

فالمريض معه عذر أنه مريض، ويمتثل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (اشربوا من ألبانها وأبوالها) ، لكن السليم المعافى لماذا يشرب من البول؟ الرسول عليه الصلاة والسلام كان معافى، فهل شرب من البول؟ فأحياناً الأفهام تأتي على غير وجهها والله أعلم، وجزى الله الأخ السائل خيراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015