جاء ذكر الشهداء فقال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، فهل الصدّيق أرفع درجة أم الشهيد؟ والظاهر من سياق الآيات أن الصديق دائماً يقدم على الشهيد في الذكر، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، وقال تعالى هنا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، وقال عليه الصلاة والسلام: (اثبت أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ، وقد وصف في القرآن يوسف صلى الله عليه وسلم بالصديقية، وهو نبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد أنه قُتل شهيداً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى حكاية عن رسول الملك إلى يوسف: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] ، ووصفت مريم بالصديقية وهي كاملة الإيمان عليها السلام، فأحياناً قد يفوق الشخص الشهداء وهو لم يقتل في سبيل الله، فإذا كان الإيمان في قلبه كبيراً هائلاً فقد يفوق الشهداء في الرتبة.
وإن لم يقتل فـ أبو بكر رضي الله عنه لم يقتل شهيداً رضي الله عنه، فلم يقتل بضربة سيف ولا بطعنة رمح، ومع ذلك فـ أبو بكر -باتفاق أهل السنة- أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل من الصحابة الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرتبة أبي بكر أعلى من مراتبهم، بدليل حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أبو بكر وعمر سيدا شيوخ أهل الجنة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم) رضي الله تعالى عنهما، وفي الحديث: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله: هذا خير.
فإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد) .
الحديث، وفيه أن أبا بكر يدعى من تلك الأبواب جميعها.
فهذا يفيد أن أعمال البر -سواء أعمال القلوب أو أعمال البدن- قد تدخل الشخص عالي الجنان وإن لم يقتل شهيداً، بل ويفوق مراتب الشهداء، فهذا لا بد أن يوضع في الاعتبار، فلا تأخذ الأحاديث الواردة في فضل الشهيد في سبيل الله وتترك سائر الأحاديث الواردة في أصناف أُخر من الدعاة إلى الخير، ومن القائمين على الأيتام، ومن القائمين على الأرامل، ومن القائمين على مشاريع الخير، ومن العاملين لأعمال البر، فهذه أبواب، (وكلٌ ميسر لما خلق له) ، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} .
أبهم ذكر أجرهم لعظمته، فلهم أجرهم الذي تكفل به ربنا سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ، كأنه قد عقدت صداقة بينهم وبين الجحيم، فقيل عنهم: إنهم أصحاب الجحيم.
أي: أصدقاء الجحيم بينهم وبينها صداقة، فهي تتولاهم، وهم نزلاؤها وهم سكانها، وهي مولاهم وبئس المصير.
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد.