قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
في هذه الآية يقال: هل الوقف على قوله تعالى: (الصِّدِّيقُونَ) أم على قوله: ((وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) ، فهل يقال: إن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، ثم جاء أجرٌ آخر للجميع: فقال تعالى: ((لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)) ، أم يقال: إن الوقف عند قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، وتم المعنى، ثم قال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} ، ثم ذكر صنفاً ثالثاً فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
فالوقف كثيراً ما يكون للعلماء فيه وجهان، ولذلك نقول: إن علامات الوقف الموضوعة في المصاحف لا تؤخذ -فقط- من أهل التجويد ومن أهل القراءات، بل أيضاً من علماء التفسير، فعلماء التفسير يستطيعون ضبط المعاني، ومن ثم ضبط علامات الوقف، فأحياناً يكون عالم من علماء القراءات -مثلاً- يفهم الآية على معنىً من المعاني، ويكون في التفسير متسع، فيقول بوضع علامة الوقف على كلمة، ويخالفه آخرون في موضع الوقف لفهمهم الآية على معنى آخر.
مثال ذلك: علامة الوقف اللازم عند قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] ، فمن العلماء من يضع فوق قوله: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} ، علامة الميم التي تعني: الوقف اللازم، وهذا ينبني على أن الذي قال: (إني مهاجرٌ إلى ربي) ، هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ لأنك إذا وصلت فقرأت: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} ، فالضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو لوط صلى الله عليه وسلم، فيكون القائل: إني مهاجرٌ إلى ربي، وهو لوط صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء على أن الذي قال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} ، هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ، لكن هذا أيضاً ليس بنافٍ أن يقول لوط عليه الصلاة والسلام: (إني مهاجر إلى ربي) ، خاصةً أن لوطاً صلى الله عليه وسلم كان في بلدة ليست له فيها قبيلة، وهذا أحد الأقوال في تفسير قول لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] ، قال فريق من المفسرين: لم تكن له قبيلة في هذه البلدة؛ فقال هذه المقالة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، يقال: هل كل مؤمن بالله ورسله يعد صديقاً من الصديقين، أم أن في هذا الأمر تفصيلاً؟ والجواب لاشك أنه لا يقال: إن كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يعد صديقاً من الصديقين.
وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام وصف بعض أصحابه فقط بالصديقية، فقال عليه الصلاة والسلام لما صعد جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في السماء.
قالوا: تلك منازل الأنبياء -يا رسول الله- لا يبلغها أحد غيرهم! قال: كلا.
والذي نفسي بيده.
رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) .
والمؤمنون في الجنة، لكنهم في درجات دون هذه الدرجات العلى.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) ، ففيه إشعار بأنه لا يكتب كل شخصٍ صديقاً، إنما الذي يصدق ويتحرى الصدق، يؤول به التحري للصدق إلى أن يكتب عند الله صديقاً، وكذلك قال الله سبحانه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] ، فوصفت مريم عليها السلام بالصديقية، فلا يقال يقيناً: إن كل من قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صديق من الصديقين.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)) ؟ قلنا: المعنى: والذين كمل إيمانهم بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم.
ويؤيد هذا المعنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع، وذكر منهن مريم عليها السلام) ، فقد كمل إيمانها فكانت صدّيقة، وأبو بكر رضي الله عنه لما كمل إيمانه، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام في خبر الإسراء والمعراج بلا تردد وصف بالصديقية.
فيقال في قوله تعال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} أي: الذين كمل إيمانهم بالله ورسله أولئك هم الصديقون.