باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71] (تورون) من العلماء من قال: معناها: تقدحون.
أي: تقدحونها أو تستخرجونها، كما في قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:1-2] (فالموريات) : هي الخيل التي تضرب بحوافرها على الحجارة فيخرج منها ذلك الشرر، فيقال: إن الخيل أورت هذه النار.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} [الواقعة:71-72] من العلماء من قال: إن المراد بالشجرة هنا: الشجرة التي توقد فتخرج منه هذه النيران، ومنهم من قال: هي شجرة مخصوصة كان يؤخذ منها بعض الخشب وبعض المواد فباحتكاكه تستخرج النار.
قال تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] ما المراد بقوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] ؟ جمهور العلماء قالوا: تذكرة بنار جهنم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: إن كانت لكافية يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً) ، فقوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] أي: جعلناها تذكرة بنار الآخرة.
وقال تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] المقوون هم: المسافرون.
{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] فالمقوون هم: المسافرون، ولقائل أن يقول: إن هذه النار هي متاع للحاضرين وللمسافرين، فكما أن المسافر يحتاج إليها فكذلك الحاضر يحتاج إليها، فلماذا قيل: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] ؟ هذا كما قدمنا يلفت نظرنا لشيء ألا وهو: أن المستفيد الأعظم والأكبر من النار هم أهل الأسفار الذين كانوا يقطعون الفيافي والقفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا في أسفارهم يحتاجون إلى النيران، للاستضاءة، والتدفئة والطهي عليها، فاحتياجهم إليها أكثر من أهل الحضر، فقال تعالى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] لأن المستفيد الأكبر منها هم المسافرون، ومن ثم قال موسى لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7] ، فالحاضر مستفيد والمسافر مستفيد، لكن المستفيد الأكبر هم أهل السفر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك نسبت الاستفادة إليهم، ونسب المتاع إليهم، وهذا وارد في عدة آيات وعدة أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، فقد يقول قائل: إن هذا الحديث يفيد الحصر فلا يشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم -في ظن هذا القائل- إلا لأهل الكبائر، ثم يرد أيضاً كيف (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) والنبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن شفاعته: (إنها نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك بالله شيئاً) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليّ، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة) ، وهذا ليس من أهل الكبائر، فلقائل أن يستمر في سؤاله فيسأل: ما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ؟ فيجاب عليه بما يجاب في قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] أن شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأهل الكبائر ولغير أهل الكبائر، لكن المستفيد الأكبر من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الكبائر، فصحيح أن هناك أناساً ترتفع درجاتهم في الجنان بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن المستفيد الأكبر من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل الكبائر فنسبت الشفاعة إليهم لكونهم المستفيد الأعظم من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونحوه في الحديث الذي في إسناده بعض الكلام: (ألا إنها ليست للمتقين ولكنها للمتلوثين الخطائين) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا إنها ليست للمتقين) أي: ليس المستفيد منها بالدرجة الكبرى المتقون، فالمتقون يستفيدون من شفاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن الذي يستفيد أكثر وأكثر هم الذين قد استوجبوا النار أو قد ورد في شأنهم أن النار لازمة لهم فأنجاهم الله بفضل شفاعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذاً: اندفع الإشكال الوارد في قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] ، وقدمنا أن التذكرة هي التذكرة بنار الآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.