التربية بالقدوة الحسنة

تكلمت في اللقاء الماضي عن أعظم وسائل التربية ألا وهو: التربية بالقدوة، وقلت: يا أحبابي! إن شبابنا الآن يعيش صراعاً نفسياً داخلياً رهيباً؛ لأنه قد فقد القدوة الطيبة الصالحة في جانب التربية، وفي جانب الدعوة، وفي جانب الأبوة.

يعيش شبابنا اليوم صراعاً نفسياً رهيباً؛ إذ إنه فقد القدوة الطيبة والمثل الأعلى في هذه الأيام، لاسيما وقد قُدم الفارغون والتافهون ليكونوا القدوة والمثال.

أيها الأحبة! من اليسير جداً أن نقدم منهجاً نظرياً في التربية، أمر ميسور أن يجلس مقنن أو مرب أو مبدع أو مفكر ليضع منهجاً تربوياً نظرياً غاية في الإتقان والإبداع، ولكن هذا المنهج يظل حبراً على ورق -لا قيمة له على الإطلاق- ما لم يتحول في حياة الناس إلى واقع يتحرك.

فالمنهج النظري ليس له قيمة إلا إذا تحول في حياة الناس إلى منهج عملي، فنحن نتغنى بالصدق، ولكن ندر الصادقون! ونتغنى بالأمانة، ولكن قلَّ أهل الأمانة! ونسعد بالوفاء بالعهد والوعد، ولكن ندر الموفون بوعودهم وعهودهم! وهكذا.

فالمنهج النظري حتى وإن كان رائعاً جميلاً يظل حبراً على ورق ما لم يتحول إلى واقع يتحرك في دنيا الناس.

ولذلك لما شرع الله جل وعلا هذا المنهج التربوي المعجز علم -وهو العليم الخبير- أنه لابد لكي يتحول هذا المنهج التربوي في حياة الناس إلى واقع أنه لابد للناس من قدوة تتحرك بهذا المنهج في دنيا الناس، فيعي الناس أن هذا المنهج حق؛ لأنهم رأوه بأعينهم واقعاً يتحرك في دنياهم، ومن ثمَّ بعث الله أعظم قدوة وأطهر مثل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم؛ لتتحرك هذه القدوة وليتحرك هذا المثل بين الناس، فيعلم الناس علم اليقين أن هذا المنهج حق لا مراء فيه؛ لأنهم يرونه يتجسد في هذه القدوة الطيبة والمثل الأعلى؛ في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد زكى الله هذه القدوة تزكية مطلقة -بأبي هو وأمي- زكاة في عقله في علمه في صدقه في فؤاده في قلبه في صدره في حلمه وفي كل شيء؛ لتكون هذه القدوة وليكون هذا المثل مستمراً على مدار الأزمان والأيام؛ لأن الإسلام وهو يقدم هذه القدوة لا يقدمها للإعجاب السالف، ولا لنتغنى بقدوته وأخلاقه وصدقه؛ ثم يتوقف حالنا عند هذا الحد، كلا! وإننا نرى كثيراً من أبناء الأمة الآن يتغنون بأخلاق الحبيب المصطفى، بل ويعلنون على مدى الأزمان والأيام أن قدوتهم الطيبة ومثلهم الأعلى هو رسول الله، في الوقت الذي لا نرى فيه اتباعاً عملياً لهذه القدوة الطيبة، ولهذا المثل الأعلى.

فالإسلام حينما يجعل قدوته الطيبة ومثله الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يقدم هذه القدوة للإعجاب السالف، أو للتفكير النظري التجريدي، كلا! وإنما يقدم الإسلام هذه القدوة الطيبة ليحول الناس أخلاقها إلى منهج حياة، وإلى واقع يتحرك في دنيا الناس.

فالرسول عليه الصلاة والسلام كان آية من آيات الله، وعجيبة من عجائب الكون، ومعجزة من معجزاته، جمع الله في شخصه شخصيات كثيرة؛ فهو رسول من عند الله، يتلقى الوحي من السماء؛ ليربط الأرض بالسماء بأعظم رباط وأشرف صلة.

وهو رجل سياسة من الطراز الأول، يقيم دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء لا يطاوله على الإطلاق بناء.

وهو رجل حرب، وكأنه لا يجيد إلا فن النزال والقتال، كان يضع الخطط والبرامج، ويكون في مقدمة الصفوف، وإذا حمي الوطيس واشتدت المعركة وخاف الناس؛ وقف الحبيب في المقدمة ينادي بأعلى صوته إذا صمتت الألسنة الطويلة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب، وقف الحبيب يعلن بأعلى صوته: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) عليه الصلاة والسلام.

وهو رجل إنساني من طراز فريد، امتلأت نفسه من هموم الناس وآلامهم، فأعطاهم -بالرغم من كل هذه المسئوليات- من وقته ومن عطفه ومن حنانه ومن خلقه، بل ومن ماله، وكأنه رجل إنساني لا يعيش إلا لآلام الناس وآمالهم.

وهو زوج وأب ورب أسرة كبيرة تحتاج كثيراً من النفقات؛ من نفقات الوقت، ومن نفقات الفكر، ومن نفقات الشعور، ومن نفقات المسئولية، فضلاً عن نفقات المال؛ فكان الحبيب يقوم بهذا الدور الكبير على أعظم وأتم صورة عرفها التاريخ وشهدتها الأرض.

وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك، فهو رجل دعوة، أخذت الدعوة منه وقته وروحه وجهده وعرقه، بل ودمه.

هذه القدوة الطيبة وهذا المثل الأعلى، ما أحبه أصحابه، وما تعلقت به قلوب أبنائه وطلابه إلا لأنه ما أمرهم بأمر إلا وكان أول المؤتمرين به، وما نهاهم عن شيء إلا وكان أول المنتهين عنه، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عند هذا الحد؛ ومن هنا تعلقت به القلوب صلى الله عليه وسلم!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015