إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لأمره.
وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وتعالى أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أيها الأحبة في الله! أعلن أحبابنا في هذا المسجد الطيب المبارك عن محاضرة الليلة بعنوان: أمة القرآن بين الماضي والحاضر والمستقبل.
وهذا العنوان أنا الذي أعطيتهم إياه، ولكني رأيت أنه من الأفضل أن نواصل سلسلتنا التربوية المنهجية التي بدأناها في مساجد هذا البلد الكريم.
لذا فإن لقاءنا الليلة هو اللقاء الرابع من لقاءات هذه السلسلة المنهجية التي أعلنا لها بعنوان: التربية لماذا؟ وفي عجالة سريعة ألخص لحضراتكم ما ذكرناه في اللقاءات الماضية، وإن هذه السلسلة المنهجية من الأهمية بمكان، يحتاجها كل داعية وكل مرب، بل وكل مسلم، بل وكل مسلمة، فإنا في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، منبثق من القرآن والسنة لفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم جميعاً.
ألخص لحضراتكم أهم العناصر التي ذكرناها في اللقاءات الماضية في عجالة سريعة وأقول: تكلمنا عن أهم الأسباب التي أدت إلى طرح هذا الموضوع في هذه الآونة.
ولخصت هذه الأسباب فيما يلي: أولاً: هذه الصحوة الإسلامية العالمية المباركة، وهذه لا ينكرها أحد على الإطلاق، ولكن هذه الصحوة من أجل أن تكون صحوة قوية بناءة مثمرة، لا يضيع جهدها كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، فإنها في حاجة ماسة إلى منهج تربوي أصيل، منبثق من القرآن والسنة، بفهم سلف الأمة؛ حتى لا تقع الصحوة في أي تعامل خاطئ مع النصوص الخاصة أو العامة، بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة والعامة التي لابد منها للربط ربطاً صحيحاً بين دلالات النصوص وحركة الواقع.
السبب الثاني: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، فإننا نرى الأمة يوم أن هزمت هزيمة نفسية نكراء غدت مستعدة للذوبان في أي بوتقة لأي منهج تربوي حتى ولو كان هذا المنهج يصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتها وأخلاقها وسلوكها.
ومن ثم وجب علينا أن نقدم هذا المنهج ليتخلص واضعو ومخططو المناهج التربوية لأبنائنا وبناتنا من عقدة النقص أمام هذه المناهج الغربية الدخيلة على عقيدتنا وديننا وإسلامنا.
السبب الثالث: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير، فإنا نرى الآن انفصاماً نكداً بين منهجنا الرباني وواقع الأمة في جانب العقيدة في جانب العبادة في جانب التشريع في جانب الاتباع في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك، وبعد هذه الأسباب بينت المصادر التي يجب على الأمة أن ترجع إليها مرة أخرى لتستقي منها منهجها التربوي.
وقلت: إن هذه المصادر هي: القرآن الكريم؛ فإن القرآن هو مصدر التربية الأول الذي يجب على جميع أفراد الأمة أن يعودوا إلى نبعه الفياض الذي لا ينبضب، وأن يستقوا منه منهجهم في كل مناحي الحياة، في جانب السياسية في جانب الإعلام في جانب التعليم في جانب التربية في جانب الاقتصاد في جانب الاتباع في جانب الأخلاق في جانب السلوك في كل جوانب الحياة؛ لأن القرآن منهج حياة.
المصدر الثاني من مصادر التربية: هو السنة، فمن نادى بعودة الأمة إلى القرآن بدون السنة فإنما هو مخادع، فهو على كذب وعلى وباطل؛ لأن من آمن بالقرآن وقد ضيع السنة فقد ضيع السنة والقرآن معها.
فلا بد من التمسك بالسنة مع القرآن؛ لأن السنة توضح وتبين آيات الحق جل وعلا.
المصدر الثالث: هو منهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة.
ثم تكلمت بعد ذلك -أيها الأحباب- عن خصائص التربية، وقلت: إن المنهج التربوي ينفرد بخصائص كثيرة ومن أهمها ما يلي: أولاً: خاصية التكامل والشمول.
ثانياً: التوازن والاعتدال.
ثالثاً: التميز والمفاصلة.
التكامل والشمول: خاصية فريدة من خصائص المنهج التربوي الإسلامي؛ لأنه منهج رباني ليس من صنع البشر؛ إذ من المستحيل أن يقدم منهج بشري منهجاً متكاملاً شاملاً؛ لأن الإنسان محدود من ناحية الزمان والمكان، ومحال أن يقدم الإنسان منهجاً متكاملاً شاملاً؛ لأنه إن قدم منهجاً يصلح لجانب فإنه لن يصلح لجانب آخر، وإن صلح هذا المنهج لزمان فإنه لا يصلح لزمان آخر؛ لأن الإنسان محكوم بفقره، محكوم بضعفه، محكوم بعجزه، محكوم بقصر عمره، محكوم بشهواته وضعفه ونزواته.
لذا أيها الأحباب! فإن المنهج الوحيد الذي يمتاز بالتكامل والشمول في جميع مناحي الحياة إنما هو المنهج الرباني؛ وليس ذلك إلا لأنه منهج من وضع وصنع الله جل وعلا، الذي خلق الكون والإنسان وهو القائل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] .
الخاصية الثانية من خصائص المنهج التربوي: هي التوازن والاعتدال، وقلت في اللقاء الماضي: بأن خاصية التوازن والاعتدال ليست سمة للمنهج التربوي فحسب، ولكنها خاصية للكون كله، إننا نرى التوازن والاعتدال ليس في المنهج فقط، وإنما في الكون كله؛ لأن الذي خلق الكون ووضع المنهج إنما هو الله الواحد جل وعلا.
ليل ونهار، ضياء وظلام، صيف وشتاء، حرارة وبرودة، ماء ويابس، لا يطغى عنصر على مقابله، ولا يحيد عن مداره أو عن فلكه الذي حدده الله، فإننا نرى التوازن والاعتدال في الكون كله؛ لأن الذي أبدع الكون كله إنما هو الله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] .
ومن هذا التوازن في الكون كله استمد المنهج التربوي توازنه واعتداله، وضربت عدة أمثلة لهذا التوازن والاعتدال في جانب الروح والمادة أو الدين والدنيا، وضربت مثلاً لهذا التوازن والاعتدال في أمر التشريع وقلت: بأن جميع المناهج الأرضية إن كانت قد نبغت في جانب فإنها قد تعطلت في جانب آخر، فنرى منهجاً أرضياً منحرفاً ركز على ما يشبع الروح في هذا الإنسان، فأعطى للروح كل ما تشتهيه حتى أصبح الإنسان كائناً مشلولاً عن كل ما يمت إلى المادة والحياة بصلة، كالرهبانية التي ابتدعها بعض طوائف النصارى، ونرى منهجاً قد ركز على الجانب المادي في الإنسان فأعطى للإنسان -أي: لهذا البدن- كل ما يشتهي من أكل وشراب وطعام، وشهوات ونزوات، وأصبح الإنسان لا يعيش إلا لعرشه لا يعيش إلا لكرشه لا يعيشه إلا لفرجه لا يعيش إلا لشهواته ونزواته، كالأنعام تماماً بتمام كما حكى ربنا عن هذا الصنف، فقال جل وعلا: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] .
والخاصية الثالثة: هي خاصية التميز والمفاصلة؛ وكم كنت أتمنى أن أفرد لهذه الخاصية محاضرات لا محاضرة واحدة، ولكن نسأل الله أن يفرج الكرب، وأن يكشف الغمة عن الأمة، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أقول: يوم أن كان المسلم متميزاً مفاصلاً لكل أفراد المجتمع الذي يعيش فيه -أي: من المشركين والمنافقين الذين يخالطونه في هذا المجتمع- ويوم أن كانت الأمة متميزة مفاصلة لمجتمعات الشرك والكفر والضلال، كانت الأمة حينئذٍ علماً على رأس الدنيا، فلما تركت الأمة هذا التميز والمفاصلة أصبحت نكرة في هذه الدنيا، لا وزن لها ولا اعتبار، بل سمعنا بأم آذاننا من يقول على الكافر: والله إنني أراه الآن أفضل من المسلمين، ورب العالمين يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] .
ذلكم حكم الله، فيأتي موتور تربى على موائد العلمانيين ليقول بملء فمه: إنني أرى الكافر الآن أفضل من كثير من المسلمين.
فالتميز والمفاصلة من أهم خصائص المنهج التربوي، فالمنهج التربوي الإسلامي يربي المسلم تربية فريدة فذة، تربية عقائدية وتعبدية، وسلوكية وأخلاقية، وفكرية وحضارية، لا يمكن على الإطلاق أن تلتقي مع أي منهج تربوي أرضي منحرف من صنع البشر من المهازيل، ممن تتحكم فيهم الأهواء والشبهات والنزوات من العلمانيين الشيوعيين والديمقراطيين، والفارغين والساقطين الذين تقدموا الآن ليقننوا وليشرعوا، وليقودوا دفة التوجيه ودفة التربية ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم!