بإيجاز أتحدث عن التوازن والاعتدال في التشريع نفسه، فالمنهج التربوي الإسلامي منهج متوازن معتدل بين التحليل والتحريم، بين التحريم الذي أفرطت فيه اليهودية، وبين الإباحة التي أفرطت فيها النصرانية، فاليهودية أسرفت في التحريم، كما قال الله عز وجل {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] حرمت عليهم طيبات.
ربنا سبحانه وتعالى قال لهم: اذبحوا بقرة، فقالوا: ما هو شكلها؟ وما هو لونها وأوصافها وسنها؟ وماذا تأكل؟ فشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، أسرفوا في التحريم فزاد عليهم ما حرم.
وجاءت النصرانية وأفرطت في الإباحة، وأحلت أشياء حرمتها التوراة، مع أن الإنجيل قد أقر بأن المسيح عليه السلام ما جاء لينقض التوراة بل ليكملها وليتمها.
فجاء الإسلام بمنهجه التربوي ليضع التوازن والاعتدال في الحل والحرمة، وجعل هذا الحق لله وحده ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالتحليل والتحريم ليس من حق أحد، لا من حق فرد، ولا من حق مجلس، ولا من حق هيئة، ولا من حق برلمان، بل ولا من حق دولة، وإنما التحليل والتحريم حق لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مانع أن يأتي ولي الأمر المسلم ليقنن أموراً من خلال هذه القواعد الكلية والأصول الشرعية من القرآن والسنة.
ويتجلى التوازن والاعتدال في جانب التشريع في أن الله عز وجل ما أحل إلا الطيب النافع، وما حرم إلا الخبيث الضار، وما أمر عباده إلا بما هم قادرون على أدائه وفعله، مصداقاً لقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فالأوامر والنواهي في نطاق المكلفين، والناس يفهمون الآية على عكس المراد، فإن قلت لبعضهم: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: يا أخي! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
لماذا لا تزكي؟ يقول لك: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وإن قلت له: زوجتك متبرجة يقول لك: والله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وأصبح كأنه مفتي سبحان الله! أخي الحبيب! ليس هذا هو المعنى، وإنما المعنى أن الله جل وعلا ما أمر بأمر وما نهى بنهي وما حد حداً إلا وهو في مقدور وطاقة المكلفين؛ لأنه جل وعلا قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] .
ويوضح هذا الحكم هذا الحديث الكريم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم ... ) أصبحت عقيدة الولاء والبراء باهتة في القلوب، هذا مع حسن ظني، هذا مع إحسان الظن، فأنا الآن أعتقد أن عقيدة الولاء والبراء موجودة لكنها بهتت، لم يعد هناك تميز ولا مفاصلة، فالتميز والمفاصلة من خصائص المنهج الإسلامي، المنهج الإسلامي يصوغ المسلم صياغة عقدية عبادية تشريعية أخلاقية سلوكية لا يمكن على الإطلاق أن تلتقي مع أي منهج أرضي آخر، بل وعاش المسلم الأول في هذا المنهج التربوي بصفة التميز والمفاصلة حتى بين أظهر المشركين والمنافقين، في الثياب، وفي الكلام، وفي الطعام، وفي الشراب، وفي الكلام، وفي المعاملة، وفي الأخلاق، وفي السلوك، وفضلاً عن الاعتقاد والتعبد لله جل وعلا.
المسلم متميز في كل شيء، نعم يجب أن يعرف المسلم قدره، ويجب أن يعرف المسلم شأنه، فهو كريم عزيز بتوحيده واتباعه لله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو مهان ذليل إن تخلى عن هذا المنهج الرباني القرآني النبوي، ولا قيمة له، فإننا لا نفخر بأنساب، ولا بعصبيات، ولا بقوميات، ولا برايات، ولا بمصالح، ولا بمغانم، وإنما نردد مع سلمان.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فالمسلم عزيز بهذا النسب، وذليل إن ترك وقطع حبل هذا النسب، والمنهج الإسلامي منهج متميز، منهج مفاصل مخالف لكل المناهج المحرفة المزورة، ويجب على المسلم أن يكون متميزاً، وأن يكون مبايناً لكل هذا المناهج الأرضية المحرفة المزورة الكافرة التي تعادي منهج الله جل وعلا.
وأختم بهذا المشهد، فإن هذا الموضوع طويل، وأقول: هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وكلنا يعرف أنه كان مستضعفاً مطروداً من بيته ومن أهله ومن ماله ومن ولده، وهاجر إلى المدينة فآووه ونصروه رضوان الله عليهم جميعاً، لكن كان في المدينة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، وفي يوم من الأيام ركب عليه الصلاة والسلام حماراً، فمر على رأس النفاق هو ومن معه فغبر الحمار الذي يركبه النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء، فقال رأس النفاق: غبر علينا ابن أبي كبشة.
واللفظ هنا للبزار، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
وأبو كبشة زوج حليمة السعدية، هو الرجل الذي كان متزوجاً بـ حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن عبد الله بن أبي بن سلول يريد أن ينتقص من قدر النبي عليه الصلاة والسلام وأن يقلل من شأنه بقوله: غبر علينا ابن أبي كبشة.
وسمع عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ابن رأس النفاق أن أباه قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وانظر إلى التميز والمفاصلة العجيبة حتى مع أقرب الناس، فيجب على المسلم أن يحقق هذا المنهج الآن، لاسيما ونحن نعيش زماناً قد اختلطت فيه الأوراق.
فماذا قال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول؟ قال: يا رسول الله! والله لو أمرتني لأتيتك برأسه، فلو كان اليوم لسموه إرهابياً مباشرة، قال: والله لو أمرتني لأتيتك برأسه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كلا.
بل اذهب لبر أبيك ولحسن صحبته.
فصلى الله عليه وآله وسلم، وأي خلق هذا؟ عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يقول هذا الكلام! فانظر إلى هذا الموقف الذي تتجلى فيه أروع صور التميز والمفاصلة حتى مع أقرب الناس إليه، قال رأس النفاق: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، ويريد رأس النفاق العزة لنفسه والذلة لحبيبنا ورسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء ابنه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (يا عبد الله! هل سمعت أباك ما قال؟ فقال له: ماذا قال يا رسول الله؟ قال له: قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) ، والقصة رواها الإمام الطبري بسند صحيح.
أتدرون ماذا قال عبد الله؟ قال: صدق والله أبي يا رسول الله، -والله- أنت الأعز وهو الأذل يا رسول الله، ولقد أتيت المدينة ولا يوجد بها من هو أبر بأبيه مني، أما وقد قال ما قال فلتسمعن ما تقر به عينك يا رسول الله، وانطلق عبد الله بسيفه ووقف على باب المدينة، فلما جاء رأس النفاق وقف ابنه في وجهه وقال له ولده: والله لا يؤويك ظلها ولا تبيتن الليلة فيها إلا بأمر من رسول الله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل.
أي تميز وأية مفاصلة؟ فالرجل صرخ ونادى وقال: يا للخزرج! ولدي يمنعني بيتي! وذهبوا إلى نهر الرحمة وينبوع الحنان صلى الله عليه وآله وسلم، إلى صاحب الخُلُق وأخبروه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا له: فليأذن لأبيه.
فلما جاءه الأمر من رسول الله نظر إلى والده وقال: أما وقد جاءك الإذن الآن فلتدخل لتعلم من العزيز ومن الذليل.
أيها الأحبة! الموضوع طويل ومرير بقدر بعدنا عن هذا المنهج المنير، فهذه بعض خصائص المنهج التربوي، التكامل والشمول، والتوازن والاعتدال، والتميز والمفاصلة.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم للعودة إلى هذا المنهج الرباني الكريم، إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا بفهم سلفنا رضوان الله عليهم، وأسأل الله أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.