الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، لا أحصي ثناءً عليه فهو كما أثنى على نفسه، جل ثناؤه، وعظم جاهه، ولا إله غيره، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال شوقنا إليها، وزكى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور التي جمعنا وإياها كتاب الله، طبتم جميعاً -أيها الأخيار الأطهار- وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً منزلاً من الجنة، وأسأل الله أن يجزيكم على هذا الحضور وعلى هذه الخطا خير الجزاء، وأن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته على منابر من نور مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله إنه ولي ذلك ومولاه.
أيها الأحبة الكرام! إن لقاءنا الليلة هو امتداد للقاء الأول الذي بدأناه في مجمع التوحيد بعنوان "التربية لماذا؟ " وفي عجالة سريعة ألخص لحضراتكم ما ذكرناه في المحاضرة السالفة: تكلمت عن أسباب اختياري لهذا الموضوع في هذا التوقيت الحرج بالذات، ولخصتُ هذه الأسباب في ثلاثة أسباب: أولها: هذه الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة، فإن هذه الصحوة من أجل أن تكون صحوةً قويةً بناءةً مثمرةً راشدةً، فإنها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، منبثقٍ من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، حتى يحميها من الإنسياح والذوبان في أطر ومناهج تربوية غربية دخيلة.
وحتى لا يضيع جهد هذه الصحوة سدى، كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، وحتى لا تتعامل هذه الصحوة تعاملاً خاطئاً مع النصوص الخاصة أو العامة بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة أو العامة التي لا بد منها للربط ربطاً صحيحاً بين دلالات النصوص وحركة الواقع، فإن هذه الصحوة في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، حتى لا تميل يمنة ولا يسرة، وإنما تسير على الصراط المستقيم الذي قال الله تعالى فيه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] تسير على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفهم سلف الأمة، دون أن تتعصب -هذه الصحوة- إلى جماعة بعينها، أو إلى منهج بعينه، أو إلى أمير بذاته، أو إلى شيخ برأسه، بل إنها لا تتعصب إلا للحق، لا تتعصب تعصباً بغيضاً أعمى للمناهج والجماعات والأفراد والشيوخ؛ لأن التعصب البغيض الأعمى يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، بل إنها تتعصب للحق على لسان أي أحد، لا يهمها على لسان من ستقال كلمة الحق ما دامت كلمة الحق ستقال، لا يهمها من الذي سيرفع راية التوحيد ما دامت راية التوحيد ستظل خفَّاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء.
إن الصحوة في حاجة إلى هذا المنهج المنضبط بالقرآن والسنة الصحيحة بفهم السلف، ليس معنى ذلك أنني أقول: بأنه يجب على كل فرد أن ينطلق حراً طليقاً بمفرده ليعمل لدين الله، كلا! إننا نعيش الآن عصراً يسمى بعصر التكتلات، ولا نجد الآن اتفاقاً على شيء قدر اتفاق الغرب الكافر والشرق الملحد على الكيد للإسلام واستئصال شأفة المسلمين، ومن ثم وجب على جميع أبناء الحركات الإسلامية المعاصرة بشتى انتماءاتهم وبشتى جماعاتهم أن تتحد قلوبهم على الأقل، إن لم أقل يتحدون في جماعة واحدة، وتحت مسمىً واحد، أقول: وجب أن تلتقي هذه القلوب على المنهج الصحيح الثابت الذي لا يختلف عليه اثنان، ولا ينتطح عليه عنزان، ألا وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة بفهم سلف الأمة الصالح، وليعمل كل أخ تحت لواء جماعته، التي رأى أنها هي الأقرب إلى الحق والصواب، ليعمل بكل طاقته وقدراته وإمكانياته لدين الله عز وجل، دون أن يحتقر جماعة أو يمتهن شيخاً أو يحقر عالماً أو يجرح إماماً.
فإننا الآن بحاجة إلى تضميد الجراح، وإلى توحيد الصف والقلوب، فليتنازل كل أحد عن زعامته، وعن ريادته وقيادته، ليتحرك الجميع في بوتقة واحدة، في بوتقة الحب في الله، لنرفع جميعاً راية لا إله إلا الله في وقت أعلن فيه العلمانيون والمنافقون والمجرمون الحرب سافرةً لا على الإرهاب ولا على التطرف -زعموا- وإنما على الله ورسوله.
يا شباب الصحوة! يا أطهار! يا أخيار! يا أبرار! يا أصحاب الحق! يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! لا نريد فرقة وتمزقاً وتشتتاً.
أعلم أن بعض الأحبة الآن سيقول لي: كيف تفكر وأنت تعلم يقيناً أن من بين أبنائنا وإخواننا ممن ينتمون إلى بعض الجماعات التي تعمل في الساحة على خطأ عقدي ومنهجي وحركي؟ أقول: يا أخي! أعلم ذلك يقيناً، ولكن إذا تناول كل أخ أخاه بالتجريح على المنابر فامتهن منهجه، واحتقر أسلوبه، وسفه دعوته، ولم يذهب إليه لينصهر معه في بوتقة الحب في الله، ويقول له بتواضع وذلة وانكسار: يا حبيبي في الله! هذا خطأ عقدي أنت عليه، والدليل على خطئك من كتاب الله كذا، ومن السنة الصحيحة كذا، وأقسم بالله العظيم لو رأى الأخ منك انكساراً لله، وذلاً وتواضعاً له، ورحمة به، وحكمة في نصحه وعرض الدليل عليه لأذعن للحق؛ لأنه يقيناً -وأنا أثق بكلمتي- يقيناً والله ما انطلق إلا وهو يريد الحق ونصرة دين الله ونصرة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه ربما أخطأ الطريق وانحرف عن المنهج بعض الشيء، فوجب على أحبابه وإخوانه أن يقتربوا إليه في رحمة وحكمة ليبينوا له الحق بالدليل، وحينئذٍ سنرى الجميع إن شاء الله جل وعلا، حتى ولو كان تحت ظل راية جماعته التي يعمل لها، سنرى الألفة والمحبة والأخوة والمودة، وسنرى حبيبنا من الجماعة الإسلامية يعانق أخاه وحبيبه من الإخوان، وسنرى الأخ من الإخوان يعانق حبيبه من الجماعة السلفية، أو من جماعة أنصار السنة، أو من جماعة التبليغ، ونرى الإخوان جميعاً قد انصهروا في بوتقة الحب في الله، ومن منا على خطأ يصحح له إخوانه ذلك الخطأ بالرحمة والحكمة.
يا أطهار! يا أخيار! أقسم بالله أن الشرق والغرب قد اتحدوا على حرب الإسلام، ونحن لا زلنا ومعنا الحق مختلفين، متناحرين، متطاحنين، لماذا؟! فليفتش كل واحد منا في نفسه هل يريد الله ورسوله والدار الآخرة، أم يريد الدنيا؟ دعاة الآخرة وعلماؤها متحابون متوادون، وعلماء الدنيا ودعاتها متناطحون متصارعون، فليفتش كل واحد منا في نفسه، هل أريد نصرة دين الله، أم أريد لنفسي الزعامة، والريادة، والقيادة، أم أريد لجماعتي أنها هي التي تظهر على الساحة، أم أريد لأميري أنه هو الذي تسمع كلمته، وأن قوله هو الحق الذي لا هزل ولا جدال فيه، وأن فتواه قرآن لا بد ألا يخالف، وسنة لا بد أن تتبع؟ فتشوا يا أحباب.
والله إن أول من تسعر بهم النار عالم وقارئ للقرآن ومجاهد سقط في الميدان، لماذا؟ لأن العالم ما ابتغى بعلمه وجه الله، أراد السمعة والشهرة، وأراد بعلمه أن يصرف وجوه الناس إليه، وفي الحديث الصحيح من حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار) .
لا أريد أن أستطرد فإن اللقاء طويل وإن البنود كثيرة، وإنما أريد أن أقول: إن الصحوة الإسلامية بشتى فصائلها، وبمختلف جماعاتها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل يصحح سيرها، ويقود خطاها، ذلكم المنهج المنضبط هو القرآن الكريم والسنة الصحيحة بفهم سلف الأمة، وحينئذٍ ستلتقي القلوب على الحق جل وعلا، أسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يوحد صفنا، وألا يشتت شملنا، وأن يجعل هذه الصحوة شوكة في حلوق المنافقين والعلمانيين.
السبب الثاني: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير: وشرحنا ذلك مفصلاً، ونوهت لذلك في أول فقرة اليوم من خطبة الجمعة بقولي: إن ما تحياه الأمة الآن، إنما هو نتيجة حتمية لابتعادها عن المنهج الرباني، فإننا نرى الآن انفصاماً مريراً بين منهجنا المنير وواقع الأمة المرير الأليم.
السبب الثالث: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة: فإننا رأينا الأمة بعدما هزمت هزيمة نفسية نكراء، رأينا عندها الاستعداد للتقليد الأعمى، وللمحاكاة المطلقة، وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) .
ذابت الأمة، وأصبحت مستعدة للإنسياح في هذه المناهج والأطر، وبعد مرحلة طويلة جنت الأمة من وراء ذلك حنظلاً، ورأت أنها قد زرعت شوكاً وجنت جراحاً.
لقد بينت بعد ذلك المصادر التي يجب على الأمة أن تستقي منها منهجها التربوي الأصيل، وركزت هذه المصادر في ثلاثة: المصدر الأول هو القرآن الكريم: فالقرآن الكريم هو مصدر التربية الأول، وهو المعين الذي يجب على أبناء الأمة أن تستقي منه التربية.
المصدر الثاني هو السنة: والسنة الصحيحة لا غنى للقرآن عنها على الإطلاق، فهي مبينة ومكملة وموضحة للقرآن الكريم، وضحت الصلاة، وبينت الزكاة، وفصلت الحج إلى آخر أركان هذا الدين ما وضحت ذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن السنة منهج تربوي كامل متكامل، فضلاً عن أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم منهج تربوي متكامل كذلك.
المصدر الثالث منهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: [من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه