تفاوت أهل الإيمان في الأعمال الظاهرة

كما يتفاوتون في مبلغ الإيمان من قلوبهم، يتفاوتون في أعمال الإيمان الظاهرة، يعني: حالات القلوب وإيمان القلوب يتفاوت من حيث قوة اليقين، وفي أعمال الإيمان أيضاً يتفاوتون، بل يتفاضلون في عمل واحد يعمله كلهم في آن واحد وفي مكان واحد، فهناك الآلاف الذين يقفون على عرفات وهم يمارسون نفس العبادة في نفس الأرض وفي نفس الوقت يوم عرفة، كلهم موجودون في مكان واحد وفي عبادة واحدة وفي وقت واحد، ومع ذلك بين الواحد منهم والآخر تفاوت عظيم الله أعلم به.

أيضاً يقف الناس في الصلاة صفاً واحداً في الظاهر كلهم يصلون نفس العبادة والمكان والوقت، وهم يستوون في العمل الظاهر، لكنهم يتفاوتون في عمل القلب والخضوع والخشوع.

وكما يتفاوتون في مبلغ الإيمان من قلوبهم، يتفاوتون في أعمال الإيمان الظاهرة، بل والله يتفاوتون في عمل واحد يعمله كلهم في آن واحد، وفي مكان واحد.

فإن الجماعة في الصلاة صافون كلهم في رأي العين مستوون في القيام والركوع والسجود، والخفض والرفع، والتكبير والتحميد، والتسبيح والتهليل والتلاوة وسائر الأذكار، والحركات والسكنات، في مسجد واحد ووقت واحد وخلف إمام واحد، وبينهم من التفاوت والتفاضل ما لا يحصى، فهذا واحد منهم تجد قرة عينه في الصلاة وأثقل شيء عليه أن يقترب وقت التسليم حين يخرج من هذه الصلاة؛ فيود إطالتها مادام عمره، وآخر يرى نفسه في أضيق سجن، يود انقضاءها في أسرع من طرفة عين، أو يود الخروج منها، بل يتندم على الدخول فيها، وهذا يعبد الله على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يشاهد الله، وآخر قلبه في الفلوات، قد تتعدد به الضيعات، وتتفرق به الطرقات، حتى لا يدري ما يقول، ولا ما يفعل، ولا كم صلى.

هذه حقيقة، فبعض الناس يتسلط عليهم الشيطان في الصلاة، فتجده متى ما دخل في الصلاة، ذكره الشيطان بكل شيء نسيه من أمور الدنيا، وكل مكان يجد فيه لذته، وأشياء كثيرة يكون نسيها في الأحوال العادية؛ فيأتي الشيطان ليذكره بها، ويظل يتشعب قلبه في كل أودية الدنيا، وتحضر كل المشاكل في أثناء الصلاة، ولا تنتهي هذه المشاكل إلا بانتهاء الصلاة، وعندما يسلم تضيع هذه المشاكل.

انظر لشهر رمضان كل الناس يصومون، ثم انظر إلى التفاوت بينهم في فرحهم بهذا الشهر وابتهاجهم بدخوله واستعدادهم له، قارن مثلاً بين الذي يفرح بقدوم رمضان؛ لأنه سيرى الفوازير والتمثيليات والمسابقات ويأكل ويشرب ويتلهى ويتسلى مع أصدقائه ومعارفه، وبين من كلما مرت ساعة أو لحظة من رمضان تندم عليها؛ لأنه لم يستثمرها أكثر مما استثمرها، حتى إذا حضر آخر رمضان كأنه في مأتم، وأن أحب شيء إليه قد فارقه وهو أحوج ما كان إليه، كيف تتقطع قلوب المؤمنين بفوات رمضان وسرعة ذهابه.

انظر إلى ذلك العاصي الفاسق الذي يفرح فرحاً شديداً لذهاب رمضان وانصرافه، حتى إن بعض الشعراء قال: رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاق ما كان أطوله على ألافها وأقله في طاعة الخلاق قوله: (رمضان ولى هاتها يا ساقي) أي: أنه امتنع عن شرب الخمر والعياذ بالله في أثناء رمضان، فيقول فرحاً: رمضان ولى فهات هذا الخمر التي حرمنا منها في رمضان.

قوله: (ما كان أطوله على ألافها) ما كان أطول شهر رمضان على عبيد الخمر والعياذ بالله الذين تعودوا عليه.

فهذا يصور نفس هذا المعنى الذي نشير إليه، ولذلك كان من الكبائر أن يتمنى الإنسان بقلبه أن يتأخر رمضان، ومن علامات الإيمان عند المؤمن الصادق أنه يفرح ويتمنى أن يكون غداً رمضان، ولا يتمنى أن يكون يوم غدٍ هو الثلاثين من شعبان.

هذه من الآداب القلبية التي تدل وتعكس تفاوت الإيمان في عبادة واحدة.

وإذا ذهبنا نستقصي أبواب الخير في عبادة مثل الصيام يتبين لدينا بصورة واضحة تفاوت الناس في العمل الواحد، وإن اشتركوا فيه في الظاهر.

وهذا ترفع صلاته تتوهج من نوره حتى تخترق السماوات إلى عرش الرحمن عز وجل، وهذا تخرج صلاته مظلمة لظلمة قلبه، فتغلق أبواب السماء دونها؛ فتلف كما تلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها، كما جاء في بعض الآثار أنها تقول له: (ضيعك الله كما ضيعتني).

وهذا يكتب له أضعافها وأضعاف مضاعفة، وهذا يخرج منها وما كتب له إلا نصفها، إلا ربعها، إلا ثمنها، إلا عشرها، وهذا يحضرها صورة ولم يكتب له منها شيء، وهذا منافق يأتيها رياء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، هذا والناظر إليهم يراهم مستوين في فعلها، ولو كشف له الحجاب لرأى من الفرقان ما لا يقدر قدره إلا الله الرقيب على كل نفس بما كسبت، الذي أحاط بكل شيء علماً فلا تخفى عليه خافية.

وكذلك الجهاد ترى الأمة من الناس يخرجون مع إمام واحد، ويقاتلون عدواً واحداً على دين واحد متساوين ظاهراً في القوى والعدد، فهذا يقاتل حمية وعصبية، وهذا يقاتل رياء وسمعة؛ لتعلم شجاعته ويرى مكانه، وهذا يقاتل للمغنم ليس له هم غيره، وهذا يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وهذا هو المجاهد في سبيل الله لا غير.

وهذا هو الذي يكتب له بكل حركة أو سكون أو نصب أو مخمصة عمل صالح.

وهكذا الزكاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع أعمال الإيمان، الناس فيها على هذا التفاوت والتفاضل بحسب ما وقر في قلوبهم من العلم واليقين، وعلى ذلك يموتون وعليه يبعثون، وعلى قدره يقفون في عرق الموقف، وعلى ذلك يكون الوزن والصحف، وعلى ذلك تقسم الأنوار على الصراط بحسب أعمال القلوب وغيرها، وبحسب ذلك يمرون عليه، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، وبذلك يتسابقون في دخول الجنة، وعلى حسبه ترفع درجاتهم أيضاً في الجنة، وبقدره تكون مقاعدهم من ربهم تبارك وتعالى في يوم المزيد، وبمقدار ذلك ممالكهم فيها ونعيمهم، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وقضية تفاضل أهل الإيمان فيه مما يخالف فيها المرجئة وغيرهم من الفرق.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015