سبق الكلام على خطورة الإسراع في إصدار الحكم بالتكفير على شخص من الأشخاص، وذكرنا أن للاندفاع في هذا الأمر آثاراً خطيرة في الدنيا والآخرة، أولها: أن من يحكم عليه بالردة عن الإسلام أو الخروج عن ملة الإسلام فإنه يستوجب أن يقتل على يد الحاكم المسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، رواه البخاري.
ثانياً: ينفسخ بمجرد ردته عقد نكاحه، وتحرم عليه زوجته.
ثالثاً: تبطل عباداته، ويحبط عمله.
رابعاً: تنقطع الولاية بينه وبين المسلمين، فلا يصبح ولياً لتزويج بناته، ولا يرث المسلمين، ولا يورث إذا مات، وتسقط حقوقه الخاصة به بوصفه مسلماً، ولا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهذا حكمه في الدنيا.
وأما في الآخرة فهو كافر خالد مخلد في النار أبداً، والعياذ بالله، فمن كان هذا شأنه فينبغي الاحتراز والتورع عن القول فيه بغير علم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)، قال العلماء: أهل البدع.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتخلفت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم.
فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم.
وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: محدثان أحدثا في الإسلام: مترف يعبد الدنيا، لها يغضب وعليها يقاتل، ورجل ذو رأي سوء، رأى أن الجنة لمن رأى مثل رأيه، فسل سيفه وسفك دماء المسلمين واستحل حرماتهم.
ثم إن كثرة الخوض في هذه القضية بغير علم لها من الآثار السيئة ما لها، ففي تكفير الناس قطع للجسور الممتدة بيننا وبينهم؛ لأن التكفير عبارة عن سلوك أضيق طريق، بل قطع أي طريق يصل بين الدعاة وبين الناس، وهو طريق التكفير، وفيه إعراض عن الطريق الصحيح، وهو طريق التواصي بالحق والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبعض الناس يريدون أن يبرروا كسلهم عن تبعات الدعوة وواجباتها، فيريحون أنفسهم بالحكم بالتكفير، لينتهى واجبهم.
فحينما نتعرض لقضية أثر عارض الجهل في الحكم بالكفر من عدمه نؤكد أن الإنسان حينما يتكلم في قضية العذر بالجهل فإن ذلك يكون انطلاقاً من تقليل خطر هذا الواقع الذي شاع فيه الجهل بين الناس، ولفت النظر إلى أهمية محاربة هذا الجهل، وإزالة غشاوته، ورفع حجابه بالعلم والتعليم والدعوة إلى الله، لا بالصد والتنفير، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن هو أقل من هذا من المبادرة إلى التكفير: (إن منكم لمنفرين) وقال صلى الله عليه وسلم: (بشروا ولا تنفروا).
بل في القرآن أمر الله عز وجل نبيين من أنبيائه -موسى وهارون عليهما السلام- بأن يذهبا إلى فرعون الذي طغى وتجبر وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فإذا كان هذا الأدب مع الكافر فأولى ثم أولى أن يكون مع المسلم الذي ثبت له عقد الإسلام.
وإذا كان الله عز وجل أمر بالإحسان والرفق فذلك مع الناس عموماً، لقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، فتشمل اليهودي والنصراني، فبالأولى والأحرى أن تشمل إحسان القول فيمن انتسب إلى هذا الإسلام.
ومن خطورة الانشغال بهذه القضية وكون الإنسان يتبوأ مقعد الحاكم على الناس، وتحديد مصائرهم في الدنيا -بل في الآخرة- أن يشيع خلق الكبر، والنظر إلى الناس من علو ومن فوق كأنه رب ينظر إلى العباد، فلا يكتفي بأن غيره عبد وينظر في حاله كعبد، لكنه يحاول أن يتحرى ما في قلبه، أو أن يعامله معاملة الرب للعبد لا معاملة العبد للعبد.
إن معاملة العبد للعبد ينبغي أن تتوقف على ما يظهرون، أما الرب فهو الذي يطلع على ما في القلوب {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
وليس أدل على ذلك من حال المنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام، ويصلون مع المسلمين، ويخرجون إلى الجهاد مع المسلمين، ويفعلون الأفعال الظاهرة مع المسلمين، وعصمتهم هذه الكلمة رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوحي إليه الوحي كان يُخبر عن وجود هؤلاء المنافقين، فمنهم من علمهم ومنهم من لم يعلمهم صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك كانت تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام.
ومن أصول أهل السنة: حسن الظن وحسن الرجاء لأهل القبلة أمواتاً وأحياء.
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات؛ فلأن يخطئ الوالي في العفو أهون من أن يخطئ في القصاص) فلأن تخطئ في العفو أولى من أن تخطئ بعد أن تقيم الحد على شخص ويتضح بعد ذلك أنه مظلوم، فمتى وجدت الشبهة فلا بد من درأ الحدود بهذه الشبهات.
فإذا كان هذا في قطع يد، أو جلد، أو أي حد من هذه الحدود التي غايتها الانتهاء في الدنيا فكيف بحكم يترتب عليه هذه الآثار الخطيرة التي أشرنا إليها؟! ألا وهو حكم التكفير والخروج من الملة.
فحكم الكفر أولى بأن يدرأ بالشبهة، فمن الورع الواجب أن يحترز الإنسان عن التهور في إطلاق حكم التكفير بدون بينة.
ونكرر التحذير من الإرهاب الفكري الذي يروجه بعض أهل البدع عندما يلوحون في وجه مخالفيهم بهذه القاعدة، وهي أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، ويضعونها في غير موضعها، وهي ليست آية في القرآن ولا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن صحت فإنها تحمل على من لم يكفر الكافر الذي قام على كفره دليل قطعي، أو من لم يكفر الكافر الذي نزل الوحي بكفره.
أما شخص يختلف العلماء في حكمه هل هو كافر أم غير كافر فلا، وهل سمعنا أحداً من العلماء يكفر من لم يكفر تارك الصلاة بناء على هذه القاعدة؟! كلا.
فالتلويح بهذه القاعدة هو محاولة من بعض أهل البدع لإزالة تلك الوحشة التي تصيبهم حينما يرون أنفسهم شاذين ومنحرفين عن طريق أهل السنة والجماعة، لكي يستأنسوا ويبرروا أفعالهم بالضغط بهذه القاعدة، وهي أنك إن لم توافقه على ما هو عليه في موضوع التكفير فأنت كافراً، ويلوحون -أيضاً- بأن الرضا بالكفر كفر.