قال: [يرى ولا يراه منا ذو بصر حتى يموت مثلما جاء الخبر] فهنا صفتان: إحداهما من الإيجاب، والأخرى من السلب، وقد ذكرنا من قبل أن الصفات منها سلب ومنها إيجاب، وأن الإيجاب مفصل، وأن السلب مجمل، فبدأ بالصفة الإيجابية وهي قوله: (يرى) وفيه إثبات صفة الرؤية لله سبحانه وتعالى، فإن الله يرى كل شيء، ولا يخفى عليه أي شيء: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] فلذلك لا تخفي عنه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، فكل ذلك يراه.
ولكن رؤيته تنقسم إلى قسمين: الأول: رؤية علم وإحاطة وبصر ونظر، والثاني: رؤية تقدير وحفظ، فرؤية التقدير والحفظ هي التي يعبر عنها بالنظر، ولذلك قال الله تعالى: {لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77] أي: لا ينظر إليهم بعين رحمته وحفظه؛ لكن مع ذلك لا يخفون عليه بل هو يراهم، وكذلك قوله عز وجل لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فهذه الرؤية المخصوصة المقصود بها مع إثبات النظر والإبصار: الحفظ والإحاطة أيضاً، فهو حافظ لهما، عاصم لهما من فرعون وجنوده.
ثم الصفة السلبية هي قوله: (ولا يراه منا ذو بصر حتى يموت) : وهذه الصفة السلبية متضمنة لإثبات أيضاً؛ لأنها مغياة بغاية، فنفي الرؤية عن المخلوق ليس نفياً مطلقاً، بل هو في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فقد أثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن المؤمنين (سيرون ربهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته) وجاء في كثير من الآيات ما يدل على ذلك، مثل قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] فهذه الرؤية الأخروية ثابتة بالنصوص ويجب الإيمان بها، وقد أنكرها المعتزلة فكثر الرد عليهم، ومن الذين ألفوا في الرد عليهم: الإمام الدارقطني فألف كتابه في إثبات الرؤية، وقد كان كثير من السلف يمتحن بها توبة ورجوع الجهمية عن جهميتهم، فمن أثبت منهم الرؤية وأقر بها فهذا دليل على توبته.
أما الرؤية الدنيوية فإنه لا يمكن أن تدركه الأبصار لقول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ولذلك فإن موسى سأله رؤية دنيوية حين كلمه بكلامه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ولن هنا للنفي؛ لكنها لا تقتضي التأبيد خلافاً لبعض المعتزلة، فإنه رأى أن (لن) للنفي على وجه التأبيد، ومعناه: لن تراني مطلقاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا منفي؛ ولذلك قال أهل البلاغة: إن لن لا تدل على التأبيد، كما قال السيوطي رحمه الله في عقود الجمان: وقيل للتأبيد لكن ترك ورده لابن خطيب زملكا رده ابن خطيب زملكا.
وينسب للزمخشري أنه قال: إن (لن) للنفي على سبيل التأبيد أي: لتأكيد النفي وتأبيده، ولكن لم يرد هذا في الكشاف حسب علمي، ولا في المفصل، وإن كان في الأنموذج، ولم أر من نص على أنه فيه، وهذه كتب الزمخشري المتعلقة باللغة، ولكن عموماً هو يقر أنه معتزلي ويعتز بذلك، وهذا مذهبه.