كذلك اختلف في رؤية الله في النوم، فقالت طائفة من السلف: لا يمنع نص من رؤيته في النوم؛ لأن الرؤية في النوم إنما هي بالأرواح لا بالأشباح فليست راجعة للبصر، والنفي إنما جاء معلقاً بالأبصار بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] وعلى هذا فالرؤيا غير الرؤية، فيمكن أن يرى من الرؤيا لا من الرؤية في الدنيا.
وروي عن الإمام أحمد أنه رآه في النوم مرات كثيرة، وأنه سأله عن أقرب ما يتقرب به المتقربون إليه؟ فقال: قراءة القرآن، فقال: أي ربي بفهم وبغير فهم؟ فقال: بفهم وبغير فهم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: (رأيت ربي في أحسن صورة) .
لكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا فالخلاف فيها مستقل، فقال بعض الصحابة بثبوت رؤيته بعين البصر، وقال آخرون: إنما هي رؤية بالروح والبصيرة لا بالبصر.
ومن الذين أثبتوا رؤيته بالبصر عبد الله بن عباس، ومن الذين نفوا ذلك: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، قالت عائشة: (لقد قف شعري مما قلت) ، وقالت: (من أخبرك أن محمداً رأى ربه ليلة المعراج فقد أعظم على الله الفرية) ، وقالت: (ثلاث من حدثك بهن فقد أعظم على الله الفرية) وذكرت فيهن: (ومن أخبرك أن محمداً رأى ربه بعين بصره) .
وعموماً فالآيات التي فيها ذكر الرؤية لا يقصد بها رؤيته لله سبحانه وتعالى، وإنما يقصد بها رؤيته لجبريل عليه السلام كقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13-14] فالمقصود بذلك رؤيته لجبريل فقط: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:11-14] فجبريل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين: المرة الأولى: على جبال مكة قد غطاها وسترها؛ فصعق منه حين رآه.
والمرة الثانية: في ليلة الإسراء عندما بلغ سدرة المنتهى وفارقه عاد إليه فرآه على صورته، له ستمائه جناح ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب.
وقد اختلف العلماء في معنى التصور وأن جبريل يتصور بصورة بشر كما في حديث عمر، وحديث عائشة، وحديث جابر، وحديث ابن عمر وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي فيها أنه يتشكل في صورة بشر: فقالت طائفة من أهل العلم: يعدم الله تعالى ما عدا تلك الصورة من جسده، ثم يعيدها إليه من جديد، أي: يخلقها من جديد.
وقالت طائفة أخرى: بل جاء جبريل على صورته؛ ولكن الله حجبه بحجابه فلم ير الناس منه إلا تلك الصورة وهي صورة دحية الكلبي.
وقالت طائفة أخرى: بل هذه الصورة وهمية غير حقيقية، وإنما هي تمثل كما مثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عرض الجدار الجنة والنار.
فإذاً مباحث الرؤية هنا ثلاثة أقسام: القسم الأول: الرؤية الأخروية، وهذه ذكرنا أنه لا خلاف بين أهل السنة في إثباتها.
القسم الثاني: الرؤية في النوم، وهذه ذكرنا الخلاف فيها لأهل السنة.
المسألة الثالثة: رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، وهذه ذكرنا الخلاف فيها لأهل السنة.
فهذه ثلاثة أقسام: القسم الأول متفق عليه، والاثنان الآخران مختلف فيهما، ولهذا يقول السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع: والخلف في الجواز في الدنيا وفي نوم وفي الوقوع للهادي اقتفي والجواز الذي في الدنيا يقصد به جواز العقل المحض، وليس الجواز بمعنى الوقوع في الدنيا، (وفي نوم) أي: كرؤيته في النوم، (وفي الوقوع للهادي) وهو النبي صلى الله عليه وسلم (اقتفي) أي اتبع.
(ولا يراه منا ذو بصر حتى يموت) أي: لا يراه منا أحد ذو بصر أي: ببصره لا ببصيرته، وهنا الشيخ يشير إلى رؤيا النوم في قوله: (ذو بصر حتى يموت) وهذه غاية للنفي فهي مقتضية لإثبات رؤية الآخرة؛ لذلك قال: (حتى يموت مثل ما جا في الخبر) أي: مثل ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والخبر يطلق على المأثور سواء كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو موقوفاً على أحد من أصحابه، أو مقطوعاً عن أحد من التابعين.
وقالت طائفة من أهل العلم: هو مرادف للأثر، لكن جرى الاصطلاح عند المحدثين: أن يطلقوا الأثر على الموقوف والمقطوع، وأن يطلقوا الخبر على المرفوع، فالخبر أكثر إطلاقه على المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأثر أكثر إطلاقه على الموقوفات والمقطوعات، والخبر: مشتق من الخبر الذي هو أحد قسمي الكلام؛ لأن الكلام إما إنشاء وإما خبر، فالإنشاء هو: التعبير عن معنىً بلفظ يقارنه في الوجود، والخبر هو: التحدث عن أمر قد مضى، ولا يقصد بالحديث أن يكون دائماً خبراً ولكن بعد نقله أصبح خبراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدث به في الماضي، فأنت تخبر الآن عن النبي صلى الله عليه وسلم به فأصبح خبراً، ولذلك يشتق منه فعل (أخبرنا) ، والمحدثون يطلقون هذا الفعل (أخبرنا) على ما تلقاه الشخص عن طريق القراءة أو ما دونها من الإجازة أو نحوها، أما ما تلقاه الإنسان بالسماع فيطلقون عليه: سمعت أو حدثنا، وهذا عند جمهورهم، كـ مسلم بن الحجاج ومن دونه، أما البخاري فلا يميز بين حدثنا وأخبرنا بل يطلق على الجميع حدثنا وأخبرنا وحدثني وأخبرني.