الإخلاص عند المناظرة

لابد أن يتصف المحاور بالإخلاص، وأن يكون القصد وجه الله تعالى، ويخلص النية في جداله بأن يبتغي وجه الله وليس المغالبة للخصم.

الشافعي رحمه الله قال: ما ناظرت أحداً قط على الغلبة - أي: ما دخلت في نقاش مع أحد قط ونيتي أن أغلبه فقط- وإنما دخلت في النقاش للوصول إلى الحق مني أو منه، وعندي أو عنده.

والمقصود هو طلب الحق، فإذا توافرت الرغبة للوصول إلى الحق لدى الطرفين وصل إليه بإذن الله، لكن المشكلة أن يكون الغرض من الحوار أن ينصر الإنسان رأيه بغض النظر عن كونه خطأً أو صحيحاً، ولذلك لابد أن يدخل الإنسان ساحة الحوار وهو يبحث عن الحق حتى لو كان عند خصمه، قال الله تعالى في حوار أهل الكتاب: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] (وإنا أو إياكم) أحد الطرفين، لا نقل: نحن على حق وأنتم على باطل من أول الطريق؛ فلن يجدي النقاش إذا كان كل من الطرفين يدعي أنه وحده على الحق: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] وينبغي أن يكون المحاور لا فرق عنده بين أن يظهر الحق على يديه أو على يدي الآخر، المهم الوصول إلى الحق.

ومن إخلاص الشافعي رحمه الله قال: ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ، وقال: ما كلمت أحداً إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه، وهذا تجرد صعب، لكن من أراده وفقه الله تعالى إليه، بل ربما وصلت القضية إلى أن بعض المتحاورين من السلف لما تحاورا رجع كل منهما إلى الطرف الآخر.

ومع الشافعي وإسحاق مرة أخرى، لكن الآن الطرف الآخر، إسحاق ناظر الشافعي -والإمام أحمد موجود في المجلس- في جلود الميتة إذا دبغت، قال الشافعي: دباغها طهورها، يعني: تستعمل، قال إسحاق: ما الدليل؟ فقال الشافعي: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن ميمونة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال: هلا انتفعتم بجلدها) فقال إسحاق: حديث ابن عكيم (كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ -أي جلد- ولا عصب).

وهذا الحديث أشبه أن يكون ناسخاً لحديث ميمونة، حديث ميمونة يقول: (هلا انتفعتم) وهذا يقول: (لا تنتفعوا) وهذا الثاني متأخر قبل موته بشهر، فقال الشافعي: هذا كتابٌ وهذا سماع -يقول: حديثي الذي احتججت به سنده السماع وحديثك -يا إسحاق - بالكتابة (كتب إلينا رسول الله) يريد أن يقول: إن حديثي أقوى، السماع أقوى من الكتابة- فقال إسحاق: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر رسائل وكانت حجة عليهم عند الله، فسكت الشافعي؛ لأن إسحاق أتى له بالحديث المتأخر، وهو حديث حجة ولو كان كتاباً؛ بدليل أن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم قامت بها الحجة على كسرى وقيصر، فلما سمع ذلك أحمد بن حنبل ذهب إلى حديث ابن عكيم وأفتى به، ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي فأفتى بحديث ميمونة، يعني: انتهى النقاش بأن تبنى إسحاق رأي الشافعي، وقضية السكوت عن الكلام كانت اعتباراً، لكن الإنسان ممكن أن يرد بأي كلام

طور بواسطة نورين ميديا © 2015