فلما تغدوا، قال له: عتبة، إنا قد جئناك في أمر، وإني قد خبأت لك خباءً اختبرك به، فانظر ما هو؟ فقال ثمرة في كمرة قال احتاج إلى أبين من هذا قال حبة بر في إحليل مهر قال: صدقت، فانظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من احداهن فيضرب كتفها، ويقول: انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها وقال انهضي غير وسخاء، ولا زانية ولتلدن ملكاً يقال له معاوية، فوثب زوجها الفاكه إليها فأخذ بيدها، فنثرت يدها من يده، وقالت: إليك، فو الله لأحرص أن لا يكون ذلك الولد منك، ولا يكون إلا من غيرك، فتزوجها أبو سفيان فجاءت منه بمعاوية.
قال الأصمعي قدم أعرابي البصرة بشيء كثير من المال، إبل وغنم وصوف، وأقط، فأقام بها، وصلح عليها جسمه، وأحل بالبادية، ثم إنَّه اشتاق إلى أهله وماله بظاهر العلج، فخرج يتنسم الأخبار، فلقيه رجل كان له به فعرفه، فقال الله أكبر، ألست فلاناً؟ قال بلى، قال ألست بي، قال بلى، وبأهلك وبمالك؟ قال الحمد لله، كم عهدك بأرضنا قال كذا وكذا يوماً قال عهد قريب، كيف تركت ابني عثمان قال سيد الحي وزعيمه، ووليه وحميمه، قال الحمد لله، خبرطيبأطاب الله خبرك، وكيف تركت أمه؟ أم عثمان؟ قال عميدة النساء إن كان للنساء عميدة:
ويشتاقها جاراتها فيزرنها ... ويقعدن عن أبياتهن فتعتذر
قال خبر طيب أطاب الله خبرك، قد كانت لي دويرة بيلوق هناك كنت أنقطع إليها أحياناً فتجمع لي همتي، ويراجعني ذهني فكيف تركتها؟ فقال أعز الدَّويرة تسلني، قال نعم قال تركتها محروسة وبرجال الحي مأنوسة، إنها لمسلاة الأحزان وملتقى الجيران، قال الحمد لله خير أطاب الله خبرك، قال قد كنت اقتنيت نويقة سميتها ضبعان، هل تعرف خبرها؟ قال نعم، إن اُستسقيت سَقَتْ، وإن أُستُنستْ، وإلا فهي في الحي لبعض ولدانهم، وقد تمكث لمكوثاً كثيراً منكراً، فقال خبر طيب أطاب الله خبرك كان هناك لي كلب كنت به ضنياً، وكنت أدعوه ريحان، هل لك به علم؟ قال نعم، يدعو الضيفان، ويذود السرحان، ويؤنس الجيران، ويحرس الأوطان، قال خبر طيب أطال الله خبرك، فأين نزلت؟ قال: بعد ما تبوأت منزلاً فعج علينا قليلاً، فأمتعنا بحديثك.
فحمله إلى منزله واحتفل في إكرامه وسقاه، فلما ثمل مد رجله، فرأى رب مثواه به أثراً، فقال ما هذا الأثر؟ قال إني وطئتعلى كلبك ريحان ميتاً، فعقرني ناب من أنيابه، إنا لله، أمات ريحان؟ قال نعم، قال كيف كان سبب موته؟ قال أكل من لحم نويقتك ضبعان فأكثر فمات. قال: ويحك أماتت ضبعان؟ قال نعم، قال خبرسيء أساء الله خبرك، كيف كان سبب موتها؟ قال كانت تنقل ماء لغير أم عثمان فنهشتها حية في مشافرها، فما أكل منها شيء إلا مات، قال: ويلك، أوماتت أم عثمان؟ قال نعم، قال أماتك الله، ولا أحياك، وما كان سبب موتها؟ قال موت عثمان، قال: فحزنت عليه فانصدعت حرارتها فماتت، قال ويلك أمات ابني؟ قال نعم، قال أماتك الله، ولا أحياك، وأماتك شر ميتة، وكيف مات؟ قال وقعت عليه الدويرة، قال: أوقعك الله فيما يسوءك يا ابن الفاعلة، ووثب عليه ليضربه، فولى هارباً، وهو في أثره فحجز الناس بينهما.
قام رجل إلى الحجَّاج بن يوسف، فقال أيها الأمير إن أبي مات، وأمي حامل بي، وماتت أمي، وأنا أرضع، وكفلتني الرجال، حتى بلغ الله بي ما ترى، وإن ضيعة لي تقوتني غلبني عليها الغالب، والأمين أحق من رد الله ظلامة المظلوم ورد يتظلم الظالم.
فقال الحجَّاج أيموت أبوك وأنت حمل أمك، وأنت رضيع ترضع وكفلتك الرجال، وهذا بيانك عن نفسك، وأخبارك غرامك هو والله أدب الله لا أدب الناس، يا غلام اصرف المؤدبين عن محمد بن الحجَّاج.
قيل إنه حضر يحيى بن أكثم باب المأمون، وجلس ليستأذن، فخرج خادم ظريف مفرط في الصباحة والحسن، كامل الأدب، دمث الأخلاق من مقصورة يريد أخرى، فلما رآه القاضي عجب به وقال (لِمِثْلِ هََذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات: 61] .
فقال الخادم: (أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىَ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ) [سبأ: 32] .
فأجابه القاضي: (نُرِيدُ أَن نّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ) [المائدة: 113] .
فقال الخادم: (لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ) [آل عمران: 92] .