كان المهدي يقرّب رجلاً من بني أمية من ولد سعيد بن العاص، وكان بعض بطارقة الروم، قد عاث وكثر فساده على من يليه من أهل الثغر، فكتب المهدي إلى عماله في أسره وحمله إليه إن ظفروا بهن فاحتالوا، حتى أسروه وحملوه إليه، فجلس حافلاً، وأحضر الأسير مكبلاً، وكان الأموي جالساً قريباً من المهدي.
فأراد المهدي أن يكرمه، بأن يوليه قتلة البطريق، فقال قم يا أخا بني أمية واضرب عنقه، وعلى النطع سيف بمالي قاطع من سيوف الخلافة، فقام، وتناول السيف وضرب به رأس البطريق ثلاث ضربات، ولم يخط فيه خطاً.
فألقى السيف في النطع، وقال أفٍ لك، أما والله لو كان من سيوف الأجداد ما نبا، فغضب المهدي، فوثب يقظان بن موسى، وتناول السيف واستأذن، وضرب به رأس البطريق فأزاله، ثم قال: يا أير المؤمنين إن هذه سيوف الطاعة، لا تعمل إلا في أيدي أهلها، فسر المهدي وكأنه نشط من عقال، فقال أبو دلامة: [الخفيف]
أيها الإمامُ سيفكُ ماضٍ ... يمين الوليُّ غير الكهامِ
فإذا ما نبا بكفٍ علمنا ... أنها كفُ مُبغض للإمامِ
قال أبو محمد بن حمدون، عاهدت الله تعالى، أن لا أعتقد مالاً من القمار، وأنه لا يقع في يدي منه شيء إلا ضيعته في ثمن شمع يحترق، أو نبيذ يشرب، أو خدر مغنية، فلاعبت يوماً المعتضد بالنرد، فقمرته سبعين ألف درهم ونهض يصلي العصر قبل أن يأمر بها، فجلست أفكر، وأندم كيف حلفت.
وقلت كم عساي أشتري شمعاً ونبيذاً وخدر مغنية، فلم حلفت، ولم بادرت؟ ولو لم أكن حلفت لاشتريت بها صيغة، وكانت اليمين بالطلاق، والمعناق، وصدقة الملك، فلما أغرقت في الفكر، والمعتضد يراني، وأنا لا أشعر، فلم يسلم، قال لي فبماذا أنت؟ قلت في خير يا مولاي، قال بحياتي فصدقته الحال.
قال وعندك أني أريد أعطيك قمار سبعين ألف درهم، فقلت، وتصنعوا، قال نعم، قد صفوت قم، ولا تفكر في هذا الطمع، ثم مر يصلي، فلحقني غم شديد أشد من الأول، وقلت لم صدقته الحال، فلما فرغ من صلاته، قال يا أبا عبد الله، بحياتي أصدقني عن الفكر الثاني، فلم أجد بداً فصدقته.
فقال أما القمار، فقد فاتك لأني صفوت عليك، ولكني أهب لك سبعين ألف درهم من خالص مالي، فلا يكون إثم في دفعها، ولا عليك في أخذها، وتخرج من يمينك فتشتري بها ضيعة تستغلها، حلالاً، فقبلت يده، فأحضر المال، فأخذته واعتقدت به ضيعة جليلة، وعاهدت الله أنا، وهو أن لا أعود إلى قمار أبداً.
كان الوليد بن عبد الملك أعظم من بني أمية كبراً، فأراد دخول مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والنظر إلى آثاره، فأخرج الناس، وهابوا سعيد بن المسيب أن يقولوا له شيئاً، وعلموا أنه لا يهاب، ولا يخرج، قال عمر بن عبد العزيز فبينما أجول مع الوليد، إذ بصر به من بعيد جالساً، وهو لا يعرفه.
فقال من ذلك الشيخ؟ قالوا شيخ الناس، وعابدهم، وعالمهم سعيد بن المسيب، أما إنه رأى أمير المؤمنين لنهض إليه، قال الوليد فنحن نذهب إليه فأتاه، حتى وقف بين يديه، فوالله ما نهض، ولا حلّ حبوته، فقال الوليد كيف أنت يا شيخ؟ وكيف حالك؟ فقال كما يحب أمير المؤمنين، ثم انصرف الوليد، وهو يقول، هذه بقايا الناس، فكان عمر بن عبد العزيز إذا تعذر عليه أمر من مهم أمره قال إن رباً سخر الوليد، حتى مشى إلى سعيد بن المسيب وقام على رأسه، لقادر أن يسخر لي هذه الحاجة.
قيل لعدي بن حاتم أي الأشياء أثقل؟ قال تجربة الصديق ومسألة اللئيم، ورد السائل، قيل له فأي الأشياء أوضع للرجال؟ قال: كثرة الكلام وإذاعة الأسرار، والثقة بكل واحد.
كان ملك من بني طسم يسمى عمليقاً، وكان عاتياً بلغ من عتوه أنه أمر أن لا تزف امرأة في بني جديس إلى زوجها، فأدخلت على الملك فاستحسنها وافترعها، ثم خلاها فخرجت إلى قومها في دمائها رافعة ثوبها عن عورتها، وهي تقول: [الطويل]
أيصلح ما يأتي إلى فتياتكم ... وأنتم رجالٌ عدد الرَّملِ
فلو أننا كنا رجالاً وكنتموا ... نساءً لكنا لا نقرُّ على الذُّلِ
فبعدُ البعل ليس فيه حميةٌ ... ويختال يمشي مشية الرجل الفحلِ
فحميت من ذلك عشيؤتها، وانتخت أقاربها من بني جديس، واغتالوا الملك فقتلوه بتحريضها.
مما قرىء على ابن دريد لبعض العرب: [الكامل]