ولا يرينكموا طول احتباسكم ... فالغيث أنفع ما يأتي إذا احتيسا
من قل دقيقة قل رفيقه، يقال من تمام الضيافة الكلام عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المواكلة، يقول: العرب ذهب أبيضاه شحمه وسنانه (وذهب طيباه أكله ونكاحه) .
قيل لأبي العيناء إن ابن حمدون يضحك منك، قال [159] كذا، قال الله: (إِنّ الّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ) [المطففين: 29] .
جاء المطر فوقعت دار أبي علي الضرير، وكان من ظرفاء أهل بغداد فأنشد: [الخفيف]
من تكن هذه السماء عليه ... نقمةً أو يكنْ بها مسروراً
ولقد أصبحت عذاياً وبؤساً ... ولقينا منها أذىً وشروراً
أيها الغيثُ كنت بؤساً وفقراً ... والناس حنطةً وشعيرا
كتب أبو العيناء إلى سليمان بن وهب الوزير: أنا أصلح الله الوزير زرع من زرعك، إن سقيته راع وزكا، وإن تركته ذبل وذوى، وقد مسني من الوزير، أصلحه الله حقاً بعد برٍ، وتغافل بعد تعهد، حتى شمت عدوّ، وتكلم حاسدٌ، ولله در أبي الأسود حيث يقول: لا تهنّي بعد إكرامك لي والسلام، قيل لرجل من أصحاب السرايا تقدم وقاتل وخذ مائتي دينار صحاحاً، فأومأ بيده إلى رأسه وقال: أخاف أن يذهب رأس المال، ثم أنشد: [الطويل]
فلو أنّ لي رأسين أذخر واحداً ... وألقي الأعادي بعد ذاك بواحد
لأقدمت في الهيجاء إقدام باسل ... ولم أك هيّاباً لوقع الشدائد
ولكن رأسي إذا ما فقدته ... وفارقني يوماً فليس بعائد
سئل الحسن البصري، لأي سبب أستحب صيام الأيام البيض، ففكر، ثم قال لا أدري، فقال أعرابي عنده لكني، أدري، قال: وما هو؟ قال: لأن القمر يخسف فيها، ولا تخسف في غيرها، فأحب الله أن لا يحدث في السماء آية إلا حدث في الأرض عبادة، فقال الحسن عند الأعرابي علم، فأسألوه.
يعجبني، قول ابن الرومي: [الوافر]
وقالوا في الهجاء عليك إثمٌ ... فقلت الإثم عندي في المديح
لأني إن مدحتُ أقول زوراً ... وأهجو حين أهجو بالصَّحيح
ولابن الرومي: [السريع]
لا تلح من يبكي شبيبته ... إلا إذا لم يبكها بدم
لستا تراها حق رؤيتها ... إلا أوان المشيب والهرمِ
ولربَّ شيء لايبيته ... وجدانه إلاّ مع العدم
كالشّمسِ لا تبدو فصيلتها ... حتّى تغشى الأرض بالظلم
ذكر أن بعض الأغنياء افتقروا إلى أن تعذر عليه قوته، فكتب بخطه شفاعة الوزير ابن مقلة، تزويراً عن لسان أبي عمر القاضي، سأله معيشة، ثم سلمها إليه بيده، إلى ابن مقلة في ديوانه، فما شك أنها خط القاضي، فقرأها وقال كرامة لشفاعته وطاعة، اجلس، قال: فجلست، وأنا ورجل من القاضي أبي عمر.
وإذا به قد دخل إلى الوزير فأكرمه وقال الآن وصلت رقعتك وشفاعتك، وأنا مهم بتحصيل شغله، فقال له القاضي: وأيّ رقعة هي؟ قال: فأخرجها وسلمها إليه، فقرأها وانشغل بالنّاس، فجعل القاضي ينظر إلى الناس، فلم يرى غيري، وأنا أتودد، وأتلون، فقال للوزير إي والله، ومن أجله حضرت، وهو من بيت كبير وفضل غزير، وفيه الكفاية، فرفع الوزير إلي حاجبيه.
وقال، قل لكتبة الديوان، يعرضون عليه الأعمال جميعها، الخالية، والمشغولة، ويسلم إليه ما يختار، وتضعف الجباية، فقال القاضي، ويكون معه غلامي ليعلم عنايتي به، وقال لغلامه، إذا قضيت حاجتهفاحمل إلي، قال فأعرضوا علي الأعمال فاخترت ما أردت، ثم حملني الغلام إلى دار القاضي فأجلسني، وجاء القاضي فغير ثيابه، فلما حضرت عنده خجلت، فقام إلي، وأكرمني.
وقال: أيها الشيخ ما ملكني أحد يمثل منتك، فقلت الله الله في أمري قد فعلت ما يجب فيه التلف، أو قطع اليد، فقال لا، والله إلا الكرامة، كيف رأيتني أهلاً لشفاعتك من دون أرباب المناصب، وجملتني عند الوزير بتلك الألفاظ، والبلاغة التي لم تخجلني فبها بلحنة، ولا بغيرها.
ثم قال للغلام، هات ما معك فأعطاني كاغدا فيه خمسون ديناراً، وقال استعن بها على حالك وإصلاح ترحك. إلى أن يهيأ شغلك، ثم قام فودعني، وودعته وانصرفت.