ثم سالتهم أين دفنوه، فأخبروها، فسارت إلى القبر تسألهم النزول لحاجتها، فانسلت إليه، فما رابهم إلا صوتها فبادروا إليها، وهي ميتة، فدفنوها إلى جانب قبره، وكذلك يحكى أن توبة بن الحمير كان يهوى ليلى الأخيلية، فقال فيها: [الطويل]
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندلٌ وصفائحُ
لسلمتْ تسليم البشاشة أورقا ... إليها صدىً من جانب القبر صايحُ
وأغبط من ليلى بما لا أناله ... ألا كل ما قرَّت به العين صالحُ
فقيل إنها مرت عليه، وقيل لها هذا قبره فاطلعت من الهودج وقالت، السلام عليك يا توبة، ثم حولت وجهها إلى القوم، وقالت: ما عرفت له كذبة قبل هذه، فأين قوله، وذكرت الشعر، فما باله لا يرد السلام، وكان إلى جانب القبر بومة كامنة، فلما رأت الهودج طارت، فنفرت الناقة، وألقتها فماتت من وقتها، فدفنت إلى جانب قبره.
لما قتل مصعب بن الزبير، خرجت سكينة بنت الحسين (رضي الله عنه) ، تريد المدينة، فأطاف بها أهل الكوفة، فقالوا أحسن الله صحابتك يا بنت رسول الله، فقالت: والله لقد قتلتم جدي، وأبي وعمي فزوجي مصعباً، أيتمتموني صغيرة، وأيتمتموني كبيرة، فلا عافاكم الله في أهل بلد، ولا أحسن عليكم الخلافة.
في الأمثال: أنْ عجوزاً كان لها دجاجة، كانت تعيش بما تلتقط من الأرض، وتبيض في كل يوم بيضة تنتفع بها العجوز، فقالت العجوز لو زدت في علفها، لكانت تبيض في كل يوم بيضتين، فجعلت تواسيها في قوتها فسمنت الدجاجة، فانقطع بيضها بالكلية، وهذا بأن الإحسان ربما ضر.
مثل آخر: دخل جردان إلى دكان حداد، فصادف المبرد، فلم يزل يلحسه، حتى سقط لسانه-وهذا مثل لمن يضر نفسه باللحاح في الباطل.
جاء رجل إلى هلال بن العلاء، فقال قد تزوجت، وأريد الليلة آتي بها، فادع الله تعالى بالبركة، فقال رزقك الله البركة، وشدة الظفر عند المعركة.
لما مات الحجاج وجدوا في حبسه رجلاً له عشرون سنة، فنظروا ذنبه فإذا به قد ضرط في المسجد، فقال ابن عباس لو خريء في الكعبة لما زيد على هذه العقوبة، فلما أطلق من حبسه، ذهب وهو يقول: [الطويل]
إذا نحن جاورنا مدينة واسطِ ... خرينا وصلّينا بغير حسابِ
قال بعضهم، رأيت أعرابياً قد عبر على هشام بن عمر الزهري، وهو أمير الجزيرة بالموصل، فلما بصر به الحجاج ابتدروه ضرباً، فرفع صوته فبصر به هشام فأحضره، قال: من أي العرب أنت؟ قال: من مضر، قال من أيها؟ قال من عقيل، قال: فما أقدمك هذه البلدة؟ قال الأمل، والطمع وحسن الظن، فقال: هل جعلت لحسن ظنك، وأملك سلماً إلى حاجتك؟ قال نعم أيها الأمير: أبياتاً قلتها في ظاهر البرية فاستحسنتهن جداً جداً، حتى إذا وردت إلى باب الأمير فرأيت ما عنده من الهيئة، والأهبة وعظم الشأن وشدة السلطان استصغرته جداً. فلجأت إلى السكوت والاعتذار.
فقال له هشام: يا أعرابي هل لك أن توقع بيننا شرطاً لا نخلفه نحن، ولا أنت؟ قال: وما هو؟ قال: نحضر ألف درهم ندفعها إليك ونشهد الله عليك، ومن حضر، وتنشد أبياتك، فإن كانت أقل من الألف لم تنقصك شيئاً، وإن كانت أكثر من الألف لم نزدك شيئاً. قال الأعرابيّ: رضيت، ثم أنشد يقول: [الطويل]
ما زلت أخشى الدهر، حتى تعلقت ... يداي بمن لا يتقي الدَّهر صاحبهْ
فلما رآني تحت ظل جناحه ... رأى مرتقاً منِّي عزيزاً مطالبهْ
رأي جبلاً قد جاوز الحرث في الثرى ... كما جاوزته في السَّماء كواكبهْ
وليس يخاف الدهر من كان جاره ... هشام ولا يخشى عليه نوائبهْ
فتى كسماء الغيث والناس تحته=من الخلق يحكي فعله ويقاربهْ فضحك هشام وقال: ياأعرابي قد جرنا عليك، ماهذه قيمة أبياتك، بل قيمتها عشرون ألف درهم، فقال الأعرابيّ: إن لي فيها شريك ولا يجوز البيع إلا يرضى الشريك، فضحك هشام من خبث الأعرابيّ ودهائه، وقال يا أعرابيّ كأنك حدثتك نفسك بالخيانة وبالنكث، فقال الأعرابي أيها الأمير رأيت النكث أحسن من الخيانة في الشركة، فازداد هشام تعجباً، وأمر بعشرين ألف درهم فأخذها وانصرف-لبعضهم: [البسيط]
عندي حدائق جود من نوالكم ... قد مسَّها عطشٌ فليسقِ من غرسا
تداركوهما وفي أغصانها رمقٌ ... فليس يرجى اخضرار العود إن يبسا