فقال له: أخبرني كيف اخترت اللبن والأدم، فقال: أما اللبن فإنه الغذاء الأول، يقوم به الأود، وأستغني بهد عن تكلف أمر النجو وأما الأدم فلا يحتاج إلى الغسل كل وقت ولا يقمل، ولظاهره برد في الحر ولباطنه دفء الشتاء.
فقال من كانت هذه حالته، كيف كان عيشه؟ فقال: أيها الملك اعلم أني اخترت لنفسي جوارشاً من خمسة أخلاط الأول الثقة بالله سبحانه، والثاني كل مقدور كائن، والثالث الصبر مطية الفرج، الرابع أن أصبر ما أصنعه، الخامس لعل ما أنا فيه خير من غيره. شاعر:
لأن ساءني دهر لقد سرني دهر ... وإن مسني عسر لقد مسني يسر
لكل من اليام عندي عادة ... فإن ساءني صبر، وإن سرني شكر
قال الأصمعي: رأيت شيخاً في جامع البصرة، فتفرست به، أنه شاعر، أو منجم، فقال كلاهما، فقلت: أنشدني شيئاً من أشعارك، فقال تركت الشعر، فقلت أنشدني شيئاً في تركك إياه.. فأنشدني: [الكامل]
قالوا تغير حاله أو عقله ... والهم يمنعني من الأشعار
أما الهجاء ففي مشيي واعظ ... والمدح قل لقلة الأحرار
قال عبد الله بن ببريدة: ينبغي للمؤمن أن يتعاهد من نفسه ثلاثة أشياء لا يدع الأكل فإن منعه يضيق، ولا يدع المشي فإنه يحتاج إليه، فلا يقدر أن يمشي، ولا يدع الجماع فإن البئر إذا لم ينزح ذهب ماؤها.
أنشدني الشيخ أبو بكر المعرف بابن الشبل المقرئ من ساكني درب يعقوب من شارع الرقيق رحمه الله لجده أبي علي بن الشبل: [البسيط]
الحمد لله لا حراماً أفاوضه بني ... فبالقول دون المال يسليني
أخفي الأصادق في جسمي سهامهم ... فليس أدري عدوي أين يرمين
ما أخطأتني من الأنبار رامية ... فكل رام بحمد الله يرميني
امنحي لي السجن سكناً والأسى سكناً ... والهم كأسي وأحزاني تعنيني
حتى تخلصت من آباق كيدهم ... تخلص الرخ من عقد الفرازين
وأنشد الظهير أبو إسحاق إبراهيم بن الفراء الآمدي لابن الرومي: [الوافر]
غموض الحق حين تدب عنه ... تفلل ناصر القول المحق
تدق عن الصواب فهوم قوم ... فيقضي للمحل على المدق
كان رجل من أهل الأدب، لا من ذوي الحسب نجا بأدبه، وتخلص بسببه، كما حكي أن الحجاج خرج في عسيسة، فلقي سكراناً، فلما أحضره للعقوبة، قال له: أصدقني ابن من أنت؟ فقال: [الطويل]
أنا أبن الذيب لم ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود
ترى الناس أفواجاً على ضوء ناره ... فمنهم قيام تارة وقعود
فقال: أطلقوه، فيوشك أن يكون من أولاد الملوك، فلما أطلقوه، سأله عنه، فقيل أيها الأمير، هذا ابن فلان الباقلاني، فقال: لقد صدقنا في نسبه، وأحسن في كنايته، وأنشأ يقول: [المنسرح]
كن ابن من شئت واكتسب أدباً ... يغنيك مضمونه عن النسب
لبعض مخاليع الأعراب: [الوافر]
أنا شيخ وأمرأتي عجوز ... تطالبني بأمر لا يجوز
تريد جماعها في كل يوم ... وذلك عند أمثالي عزيز
وقالت رق أيرك مذ كبرنا ... فقلت لها بل اتسع القفير
كتب أبو صامد الشاعر إلى أبي القاسم عثمان الغنوي: [البسيط]
رأيت في النوم أني مالك فرساً ... ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قم لمهم فهم وتجربة ... خيراًَ رأيت والفتك التباشير
فاقصص منامك عند الأمير تجد ... تفسير ذلك وللأحلام تفسير
فوقع في جوابه أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
قال منقذ العطار، بينما أنا أسير في أبيات شيبان، وإذا أنا بأعرابية تقول: في غيلمها، ويدها على صبي، والأخرى على صبية: [البسيط]
من سره أن يرى شمياً يقابلها ... بدر وقد طلعا من بين أزراري
فليأت بيتي يرى شمس النهار به ... سلمى وبدر الدجى سعد بن سيار
فقمت أبادر لأنظر إلى هذه الشمسي، والبدر، فلما دنوت، فإذا أنا بظبي وظبية كأنهما بعيران أو عودان محرقان، فذكرت، قول الأول، كل فتاة بها معجبة.
قال الحسن بن شيظم: حججت في بعض السنين، فكنت في بعض المنازل، فإذا بصبية كاملة الجمال بارعة السن.