فقلت: يا هذا قد، والله فضحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته إليك، فانتحى عنه فضحك، ثم قال أردت أن تكذبني في مقام واحد، والله لا آخذه، ولا آخذ على معروف لي ثمناً ومضى، فوالله طلبته بعد أمنت وبذلك لمن جاءني ما شاء، فما عرفت له خبراً، وكأن الأرض ابتلعته.
وكان سبب رضى المنصور عني أني لم أزل مستتراً، فلما كان يوم الهاشمية، ووثب القوم على المنصور وكادوا يقتلونه، وثب معن، وهو متلثم، وانتضى سيفه، وقاتل القوم عنه، ثم جاء والمنصور راكب على بغلة لجامها في يد الربيع فقال: تنح فإني أحق بلجامها منك في هذا الوقت، وأعظم عناء منك، قال المنصور صدق، ادفع إليه اللجام، فأخذه، ولم يزل يقاتل، حتى انكشفت تلك الحال، فقال المنصور من أنت لله أبوك؟ فقال: أنا معن بن زائدة، طلبتك يا أمير المؤمنين، فقال أنت آمن على نفسك ومالك، ومثلك يصطنع، ثم أخذه معه وحباه وخلع عليه، ودعاه يوماً فقال: إني قد أهلتك لأمر عظيم فكيف تكون فيه؟ فقال: كما يحب أمير المؤمنين، فقال: وليتك اليمن، قلت: أبلغ من ذلك منا تحب علي. قال ذلك على المنصور، فقال له: بعد كلام طويل، وقد بلغ أمير المؤمنين شيئاً لولا مكانك عنده ورأيه فيك لقبض عليك، فقال: وما ذاك يا أمير المؤمنين، فوالله ما تعرضت لذمك قال: من ذلك عطاؤك الذي تعطيه لمروان بن أبي حفصة لقوله فيك: [الكامل]
معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان
إن عد أيام الفخار فإنما ... يوماه يوم ندى ويوم طعان
فقال يا أمير المؤمنين، ما أعطيته ما بلغك لهذا وإنما لقوله: [الكامل]
ما زلت يوم الهاشمية معلناً ... بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من حد كل مهند وسنان
قال: فاستحيا المنصور، وقال: إنما أعطيته لهذا؟ فقال: نعم، والله لولا مخافة الشنعة لأمكنته من مفاتيح أبواب بيوت الخزائن، الذي فيها المال، وابحته إياها، فقال المنصور: لله درك من أعرابي، ما أهون عليه ما يعز على الناس.
قيل للعتابي: إن فلاناً قد مات، فقال نحن الأموات لفقده، وهو الحي لمجده، يقال: إن بنية لصاحب سلطان أحب إليه من دولة، لأنه بمنزلة بيان بين صديقه من عدوه، أنشد ناصح الإسلام أبو الخطابي الكلوذاني لنفسه: [الوافر]
لئن جار الزمان على حتى ... رماني منه في ضنك وضيق
فإني قد حمدت له صروفاً ... عرفت بها عدوي من صديقي
للمرتضى: [البسيط]
يبغي الرئاسة قوم لا خلاق لهم ... ومدعيها أناس ما بها وسموا
لا ينزلون من العلياء منزلة ... ولا لهم قدم فيها ولا قدم
وآفة المجد أن تبلى بمنتحل ... لا يهتدي كيف يبنيه فينهدم
قال هشام الأوقص: رأيت الحسن البصري يأكل من دكان بقال زبيبة، وتارة تينة وقسبة ونحوها، فقلت له ما في الورع يا أبا سعيد، فقال: يا لكع إتل آية الأكل، فتلوت، حتى بلغت، أو صديقكم، فقلت: ومن الصديق؟ فقال: الحسن الذي تستريح معه النفس، ويطمئن إليه القلب، فإذا كان كذلك، فلا إذن في ماله.
قدم عبد الملك رجلاً ليضرب عنقه، فدخل ولد لعبد الملك، يبكي من تأديب المعلم له، فجعل عبد الملك يسكنه، فقال الرجل: دعه يبكي، فإنه أنفع لعينيه، وأفتح لذهنه، فقال عبد الملك: إنك لفي شغل عن ذلك، فقال الرجل: إن المسلم لا يشغله عن الحق شيء، فأمر بإطلاقه.
افتتح الاسكندر فظهر من نسائه على جمال أثر في أصحابه، فقال: إن من أقبح القبائح أن تغلب رجل قوم، وتغلبنا نساؤهم.
سُئل الأصمعي عن فصاحته فقال: حفظت لأصلع قريش ثلاثمائة خطبة، فغاصت، ثم غاصت.
ما أحسن ما قال ابن الدمينة:
أبيت خميص البطن غرثان جائعاً ... وأوثر بالزاد الرقيق على نفسي
وأفرشه فرشي وأفترش الثرى ... وأجعل مس الأرض من دونه عيشي
حذار أحاديث المحافل في غد ... إذا ضمني يوماً إلى صدره رمسي
قال سري بن المغلس السقطي رحمه الله: من يعلم عذره إلا الله عز وجل فهو معذب. قال بعضهم: احذر الناس، فلن يسلم منهم إلا من لم يظهر منه خير فيحسدونه، أو شر فيهتكونه.