باستنباط الْأَحْكَام وعنُوا بضبط قَوَاعِد الْحَلَال وَالْحرَام فهم فِي الأَرْض بِمَنْزِلَة النُّجُوم فِي السَّمَاء بهم يَهْتَدِي الحيران فِي الظلماء وحاجة النَّاس إِلَيْهِم أعظم من حَاجتهم إِلَى الطَّعَام وَالشرَاب، وطاعتهم أفرض عَلَيْهِم من طَاعَة الْأُمَّهَات والآباء بِنَصّ الْكتاب قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأََمْرِ مِنْكُمْ} قَالَ ابْن عَبَّاس: "أولو الْأَمر هم الْعلمَاء". اهـ.
قلت: فالمحدّثون اشتغلوا بِرِوَايَة السّنة وَنقد الْأَسَانِيد وَمَعْرِفَة الرِّجَال فحفظوا بذلك هَذَا الأَصْل الْعَظِيم مِمَّا دَاخله من دسائس الوضاعين وغفلات الصَّالِحين، وتخصصهم بِهَذَا الشَّأْن وتفرغهم لَهُ شغلهمْ عَن الاستنباط وَالْفِقْه وَلذَلِك تَجِد مشاهير الْمُحدثين كَابْن معِين وَابْن أبي حَاتِم وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهم مقلين فِي مجَال الْفِقْه..
وَالْفُقَهَاء اشتغلوا بدراسة النُّصُوص وفحص مَعَانِيهَا واستخراج عللها ومراميها، وَالْجمع بَينهَا أَو التَّرْجِيح، وَمَعْرِفَة ناسخها ومنسوخها وَوَضَعُوا الْأُصُول وَالْقَوَاعِد الَّتِي بهَا تُفهم النُّصُوص وتُستخرج الْأَحْكَام وَيعرف الْحَلَال وَالْحرَام، وانتصبوا للْفَتْوَى فَأَكْثرُوا مِنْهَا، وتعرضوا للْقِيَاس والتفريع فتوسعوا فيهمَا، فَصَارَت لَهُم بذلك مَذَاهِب متكاملة، ومناهج متمايزة، واشتهرت مِنْهَا الْمذَاهب الْأَرْبَعَة الَّتِي تعْتَبر كل وَاحِدَة مِنْهَا مدرسة مكتملة الْمنْهَج بأصولها وقواعدها وفروعها..
وتخصص الْفُقَهَاء بِهَذَا الشَّأْن وتفرغهم لَهُ شغلهمْ عَن الرِّوَايَة والإسناد فَكَانُوا فِي الْغَالِب مقلين فِيهَا، وقلما تَجِد إِمَامًا جمع بَيت التَّوَسُّع والتبحر فِي مجالي الرِّوَايَة وَالْفِقْه كَمَا يُقَال فِي الإِمَام أَحْمد رَحمَه الله.
أما أَبُو حنيفَة فقد كَانَ مقلاً فِي الراوية، إِلَّا أَن ذَلِك لَا يَعْنِي عدم حفظه للْحَدِيث إِذْ مَا جَاءَ بالفقه إِلَّا من النّظر فِي كَلَام الله وَكَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا شُغل بالاستنباط عَن رِوَايَة مَا بلغه من الحَدِيث، وَمن تتبع عناية هَذَا الإِمَام بالأدلة عرف ذَلِك..