ولقد خص هذا الكتاب بالإطباق على أنه قد بلغ أقصى درجات الصحة والتحري في نقل الصحيح الثابت، والاحتياط الذي يبلغ إليه اجتهاد المجتهدين وأمانة النقلة والرواة، وأن المؤلف قد أفرغ فيه جهده، وراعى فيه أدقَّ الشروط التي عرفت في هذا الفن، والتزم فيه التزامات لم تعرف عن مؤلِّف في هذا الميدان، ثم ساعدته في ذلك الملكة الراسخة، التي لا يُرزَقُها إلا واضعو الفنون، والصيارفة الحذاق، الذين لا يعرفهم التاريخ إلا في أزمنة طويلة، وعلى مر القرون والأعصار، فيأتون بما يرزقهم الله من ثقوب النظر، وصحة الحدس، وسرعة الخاطر، وسلامة الفكر، والذوق السليم الذي لا يخطئ، ما لا يرزقه أقرانهم ونظراؤهم - على جلالة قدرهم وغزارة علمهم - فيأتون في هذه الفنون والمقاصد من الحكم الصحيح السريع، والوصول إلى الحقيقة، والاهتداء إلى الصواب بما يشبه الإلهام، وبما يخيل إلى كثير من الناس بأنه فوق الطاقة البشرية.
ومن الظلم والجهل بالحقائق، والتسرع في الحكم، والتقليد الأعمى، أن نخضع أمثال هؤلاء لهذه القواعد المرسومة المحدودة، التي جاءت في كتب من تأخر زمانه على زمانهم، ونزلت مكانته عن مكانتهم، فيؤخذ مثلًا كتاب «تهذيب الكمال» للحافظ المزي (742) هـ، أو مختصراته للحافظ ابن حجر (852) هـ، أو «ميزان الاعتدال» للحافظ الذَّهَبِيّ (748) هـ - على فضل هذه الكتب وفضل مؤلفيها على المشتغلين بعلم الحديث - فيحكم على «الجامع الصحيح» للبخاري، أو «صحيح مسلم» رحمة الله عليهما، أو «الموطأ» للإمام مالك، فيعاد الأمر ويجدد النظر في هذه الكتب التي تلقتها الأمة بالقبول، وبلغ أصحابها إلى أقصى درجات التحقيق والدقة والتحري، وتشرح تشريح الأجسام، وتسلط عليها المقاييس المحدودة التي تقبل النقاش، ويتسع فيها مجال الكلام.