بعد كتاب الله تعالى، وأوثقَ مصدر للحديث النبوي، وتلقيها له بالقبول، ولا يعرف كتاب من كتب البشر تناوله العلماء والمؤلفون بالشرح والتحشية والتعليق مثلما تناولوا هذا الكتاب.
وقد كان الشرح والتعليق هو المجال العلميَّ الذي تظهر فيه عناية العلماء والمؤلفين في العصور القديمة، ومقياس اهتمامهم بأثر علمي، فكان أكثر الكتب شروحًا وتعليقًا، هو أعظمَ المؤلفات تقديرًا، وأعلاها منزلة، وأكثرَها شهرة، وكان أقلُّ الكتب شروحًا وتعليقًا، أخملَها ذكرًا وأقعدَها شهرة وصيتًا، ويبقى مغمورًا لا يسترعي انتباهًا ولا يثير اهتمامًا.
فإذا أخذ هذا المقياس الذي به تعرف مكانة الكتاب في القرون الماضية، حكمنا بأن «الجامع الصحيح» للبخاري قد فاز بالقدَح المعلى في هذا الميدان، واحتل الصدارة في مكتبتنا الإسلامية.
فقد بلغ عدد شروحه والتعليقات عليه مئاتِ المؤلفات، ثم يلي هذا المقياسَ شدةُ العكوف على دراسة الكتاب، والتهافت على روايته ونقله، والتنافس في حمله ونشره، وضمه إلى الصدور، والعض عليه بالنواجذ، وتوارث الأجيال في تلقيه جيلًا بعد جيل، وكابرًا عن كابر، وطبقةً عن طبقةٍ، حتى لا تعرف فترةٌ من الزمان نسج فيها عليه العنكبوت، وساد عليه الظلام وانقطعت روايته، وتوقفت دراسته، وقد تفرد «الجامع الصحيح» بهذه الميزة بعد كتاب الله تعالى، فقد رواه وأخذه عن مؤلفه أكثر من تسعين ألفًا من الرُّواة والحفاظ، وتسلسل نقله وروايته حتى انتهى هذا الكتاب إلى مؤلفه، وبلغ حد التواتر في شهرته وصحة نقله ونسبته إلى المؤلف، لا ينكر ذلك، ولا يشكك فيه إلا من تشكك في المتواترات والحقائق العلمية التي تثبت بالضرورة، ولا يزال هذا الكتاب موضع الاهتمام والعناية، وموضع التأمل والدراسة، في الحلقات العلمية والجامعات الإسلامية وغيرها في العالم.