ثُمَّ صلى معه العشاء والتراويح، ثُمَّ أتى بالحلوى وهي أنواع كثيرة بديعة، فِيهَا الكُنافة متبّلة بدُهن الفستق والقطر النبات، ثُمَّ أمره بالنوم عنده فعند السحر أعيدت تِلْكَ المآكل كلها وَمَا هو فوقها، ففي أثناء السحور سأل القاضي التاجر عن الرجل، فذكر لَهُ ضرورته فالتفت إِلَيْهِ وقال: يَا فقيه نحن ناس غرباء من هَذِهِ البلدة، وكلامنا ثقيل عليهم، وقطع الكلام فخجل الرجل. فلما كانت صلاة الصبح صلى معه وخرج فناول التاجر ورقة فقال: أعطيها لذلك الفقيه فوجدها خفيفة، ففتحها فإذا هي من ذهب، فأخذه الرجل وتوجه فوسع عَلَى عياله، فما انتصف النهار حتى جاء الناظر إِلَى التاجر يعاتبه عَلَى شكواه للقاضي فقال: معاذ الله! لَمْ أطلب منه إِلاَّ الشفاعة عندك. فصرف لَهُ مَا استحق لذلك النائب فِي الحال.
ولم يزل أمر القاضي جلال الدين مستقيماً حَتَّى نشأ ولده عبد الله، فإنه بسط يده فِي نواب البلاد والتمس منهم الهدايا، وكثرت القالة، وعظمت الشناعة، وانتشر الأمر حَتَّى بلغ السلطان وهو لا يقبل فِي الجلال ملاماً، ثُمَّ غلظ الأمر فاقتنى المماليك الحسان الخاصكية، واستخدم أوجاقية وركابين، وارتبط خيولاً مسومة وسابق عَلَيْهَا، ثُمَّ جاهر بسماع آلات الملاهي مع أنه ساكن فِي دار الحديث الكاملية، فرفع حاله إِلَى السلطان فأمر بإخراجه إِلَى الشام. فشق عَلَى أبيه فصبر إلى أن مضت سنة فتشفع ببعض الأمراء فأمر بعوده وعدل عن تِلْكَ السيرة إِلَى تعمير دار سكنه، فشرع فِيهَا وهي بطرف جزيرة الفيل، ففرض عَلَى نواب البر من القضاة بحمل الأخشاب والرخام وغير ذَلِكَ، وأفرط فِي ذَلِكَ حَتَّى كثر من ينكر عَلَيْهِ من الأمراء فضلاً من دونهم.
وكان عبد الله المذكور قليل المداراة، كثير المجافاة للناس، فتألبوا عَلَيْهِ ورتبوا فِيهِ قصصاً إِلَى السلطان كثيرة، بعضها منظوم، فأمر الناصر بعض الخاصكية يعرف القاضي أنه إِذَا حضر الموكب يستعفي من قضاء مصر، فإنه يستحيي أن يبدأه بالعزل ولا بد من ذَلِكَ ففعل فأجابه إِلَى مَا طلب، وولاه قاضياً عَلَى الشام عوضاً عن الَّذِي مات، وأمره بالمسير عَلَى خيل البريد، فاستشفع بأن يقيم أياماً قلائل يتجهز فِيهَا فأجابه إِلَى ذَلِكَ.
واستحضر مباشري الأوقاف فحاسبهم عَلَى مَا صار إِلَيْهِ وإلى أولاده من الأموال، فكان شيئاً كثيراً جدّاً، بحيث أنه ثبت فِي جهتهم للأشرفية المجاورة للمشهد النفيسي نحو من مائتي ألف، فأخرج كتبه وَكَانَتْ فِي غاية من النفاسة فباعها ووفّى بِهَا مَا عَلَيْهِ.