وَيجب أَن يكون الْفَقِيه لَهُ من الْيَقَظَة والبصيرة وعمق النّظر والاطلاع الشَّامِل مَا يُمكنهُ من استنباط الْعلَّة الْمُنَاسبَة وَالْحكمَة الْمَقْصُودَة من الحكم وَلَا شكّ أَن هَذَا مرتقى صَعب وَلَكِن لَا مفر مِنْهُ للْعُلَمَاء الربانيين الراسخين فِي الْعلم، لَان التهرب مِنْهُ يُؤَدِّي إِلَى غياب مَقَاصِد الشَّرِيعَة وَحكمهَا، وإغلاق هَذَا الْبَاب من أَبْوَاب الِاجْتِهَاد، وَقد يربك الْفِقْه الإسلامي ويضر بمسيرته الطبعية، وَيفتح بَابا للأعداء الحاقدين المتربصين بالأمة لِيَقُولُوا: إِن الشَّرِيعَة الإسلامية جامدة خامدة صارمة لَا يَتَّسِع صدرها لمسايرة التطور البشري وَتَحْقِيق مصلحَة الْإِنْسَان وَدفع الْمضرَّة عَنهُ.

إِذا، فالحاجة ماسة إِلَى معرفَة هَذَا النَّوْع من الْفِقْه، هَذَا الْفِقْه الَّذِي وَصفه ابْن الْقيم بِأَنَّهُ (الْفِقْه الْحَيّ الَّذِي يدْخل على الْقُلُوب بِغَيْر اسْتِئْذَان) فَفِي فصل لَهُ بعنوان: (اعْتِبَار النيات والمقاصد فِي الْأَلْفَاظ) نقل عَن وَكِيع "أَن عمر قضى فِي امْرَأَة قَالَت لزَوجهَا: سمني، فسماها: الطّيبَة، فَقَالَت: لَا، فَقَالَ لَهَا: مَاذَا تريدين أَن أسميك؟ قَالَت: سمني خلية طَالِق، فَقَالَ لَهَا: فَأَنت خلية طَالِق. فَأَتَت عمر بن الْخطاب فَقَالَت: إِن زَوجي طَلقنِي، فجَاء زَوجهَا فَقص عَلَيْهِ الْقِصَّة، فأوجع عمر رَأسهَا، وَقَالَ لزَوجهَا: خُذ بِيَدِهَا وأوجع رَأسهَا" وَهَذَا هُوَ الْفِقْه الْحَيّ الَّذِي يدْخل على الْقُلُوب بِغَيْر اسْتِئْذَان، وَمَعْلُوم أَن الَّذِي قَالَ لما وجد رَاحِلَته: "اللَّهُمَّ أَنْت عَبدِي وَأَنا رَبك" وَأَخْطَأ من شدَّة الْفَرح، لم يكفر بذلك وَإِن أَتَى بِصَرِيح الْكفْر لكَونه لم يردهُ.

وَلَقَد أَتَى على فقهنا حِين من الدَّهْر صَار فِيهِ أقرب إِلَى الجمود والخمود مِنْهُ إِلَى الْحَيَاة والفعالية، ذَلِك أَنه افْتقدَ - فِيمَا افتقده - روح الْمَقَاصِد والمصالح وَقد تعرض الْعَلامَة الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور لأسباب انحطاط الْفِقْه وتخلفه فعدّ مِنْهَا: "إهمال النّظر فِي مَقَاصِد الشَّرِيعَة من أَحْكَامهَا" ثمَّ قَالَ: "كَانَ إهمال الْمَقَاصِد سَببا فِي جمود كَبِير للفقهاء ومعولا لنقض أَحْكَام نافعة، وأشأم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015