ولا للآخرة علم الشعر والشغل به " (?) ، ولهذه الأقوال نظائر تسبقها زمنياً وتتلوها، والمراد منها في هذا المقام أن تكون مثالاً على تجاهل أصحابها للنزعة الشمولية في التقسيم والتفريع، أو عجزهم عن التمرس بالنظرة الشمولية في هذا المجال، فالشيء المستقر في نفوسهم هو أن هناك معارف تتصل بالشريعة، وهذه المعارف ضرورية، وأما ما كان خارج ذلك من معارف فهم يختارون منها ما يناسب (كالطب مثلاً) ويهملون كل ما عداه لأنه لا تحكمهم رغبة في الاستقصاء والتصنيف.
وثاني هذين المجالين هو الرد على تعصب الفرد للصنعة التي يحسنها أو ما يمكن أن يسمى " غرور المعرفة القليلة "، وكانت صورة هذا كله تمثل صراعاً بين فضل الأدب بمعناه الواسع وفضل العلم بمعناه الشمولي أيضاً وخير ما يصور هذا الموقف حكاية ذكرها الرازي الطبيب في كتاب الطب الروحاني (?) ؛ قال: " ولقد شهدت ذات يوم رجلاً من متحذلقيهم (يعني الأدباء) عند بعض مشايخنا بمدنية السلام، وكان لهذا الشيخ مع فلسفة حظ وافر من المعرفة بالنحو واللغة والشعر، وهو يجاريه وينشده ويبذخ ويشمخ في خلال ذلك بأنفه ويطنب ويبالغ في مدح أهل صناعته ويرذل من سواهم، والشيخ في كل ذلك يحتمله معرفةً منه وعجبه ويبتسم إليّ، إلى أن قال فيما قال: هذا والله العلم وما سواه ريح، فقال له الشيخ: يا بني هذا علم من لا علم له، ويفرح به من لا عقل له، ثم أقبل عليّ وقال: سل فتانا عن شيء من مبادئ العلوم الاضطرارية، فإنه ممن يرى أن من مهر في اللغة يمكنه الجواب عن جميع ما يسأل عنه، فقلت: خبرني عن العلوم: اضطرارية هي أم اصطلاحية، ولم أتمم التقسيم على تعمدٍ، فبادر فقال: العلوم كلها اصطلاحية فقلت له: فمن علم أن القمر ينكسف ليلة كذا وكذا وأن السقمونيا يطلق البطن متى أخذ إنما صح له علم ذلك من اصطلاح الناس عليه قال: لا، قلت: فمن أين علم ذلك فلم يكن فيه من الفضل ما يبين عما به نحوت؛ قم قال: فإني أقول إنها كلها اضطرارية، ظناً منه وحسباناً أنه يتهيأ له: خبرني عمن علم أن المنادى بالنداء المفرد مرفوع وأن المنادى بالنداء المضاف منصوب، أعلم أمراً اضطرارياً طبيعياً أم شيئاً مصطلحاً عليه باجتماع عليه من بعض الناس دون بعض فلجلج بأشياء يروم أن يثبت