وتتحدث عن فضائله (بل وأحياناً عن كثرته وتنوعه) دون توضيح للمراد، وأما محدوديتها فتتبين لنا حين نجد لفظ العلم مقصوراً على طلب الحديث، فإذا اتسع شمل الفقه أو التفقه على وجهٍ من الوجوه في شؤون الدين (?) ؛ فلما وجد هؤلاء المفكرون أن لفظة " علم " لم تعد تغني كثيراً في الدلالة على ضروب المعارف الأصيل منها والمستحدث جعلوا يتحدثون عن " العلوم " بصيغة الجمع، حيناً، أو يوسعون من مدلول لفظة " علم " حيناً آخر بما يدرجون تحتها ن تفريعات، وكان الإحساس بقوة المفارقة بين تيارين كبيرين تيار الثقافة الأصلية وتيار الثقافة المستحدثة يجعل التصنيف عملاً ملحاً لأنه يخضع ذينك التيارين لوحدة فكرية، ويطمس ما قد يظن بينهما من تعارض، ويتيح للتيار المستحدث وجوداً معترفاً به، ويرسخ أصوله، ويستدعي على مر الزمن قبوله. وكان أمام أولئك المفكرين نموذج في التصنيف يمكنهم احتذاؤه إذا شاءوا، وهو ما يمكن أن نسميه على وجه التعميم النموذج اليوناني، فقد كان لدى أفلاطون تصور واضح لتصنيف العلوم، وكذلك كان الحال بالنسبة لأرسطاطاليس، وكان هذا النموذج يستثير هؤلاء المفكرين إلى الإفادة منه وإلى اختيار مدى صلاحيته لأوضاعهم الثقافية التي لم تكن بالضرورة مشبهة لأوضاع المجتمع اليوناني، كما أن وجود هذا النموذج لدى الفيلسوفين الكبيرين كان يعني أن التصنيف للعلوم جزء من مهمة المفكر، وأنه لا يجوز لمن أخذ بسهم من الدراسة الفلسفية أن يهمل هذه الناحية، لأن مزاولتها تعني دربةً فكرية على رؤية الأصول والفروع، وإبرازاً للقدرة على التصور الواضح لأنواع المقولات.
وكان الجو مهيأ لاستخدام تلك القدرة الفكرية في مجالين؛ أولهما الرد على تلك التفريعات الساذجة للعلم من مثل " العلم أربعة: الفقه للأديان والطب للأبدان والنجوم للأزمان والنحو للسان " (?) ، أو مثل " العلم علمان: علم يرفع وعلم ينفع، فالرافع هو الفقه في الدين والنافع هو الطب " (?) ، ومن هذا القبيل ما يرويه ابن عبد البر عن أبي إسحاق الحوفي (وقد تفوق في الرؤية على ما سبق) : " العلوم ثلاثة: علم دنياوي وعلم دنياوي وأخروي وعلم لا للدنيا ولا للآخرة، فالعلم الذي للدنيا علم الطب والنجوم وما أشبه، والعلم الذي للدنيا والآخرة علم القرآن والسنن والفقه فيهما، والعلم ليس للدنيا