رسائل ابن حزم (صفحة 927)

بها أن هذا الأمر اضطراري وأقبل الشيخ يتضاحك ويقول له: ذق يا بني طعم العلم الذي هو على الحقيقة علم ".

قد يبدو هذا المثل نموذجاً فردياً، وأنه لا يصلح لأن يستنتج منه حكم عام، لولا أن الرازي يذكر في تضاعيفه أن أصحابه (أي الحكماء) كانوا يردون على هذه العصابة (أي الأدباء) بأن علمهم اصطلاحي، فالأمر أوسع من أن يكون مقصوراً على حادثة فردية، بحيث يمكن أن يكون صراعاً بين فئتين متفاوتتين في الانتماء الثقافي؛ ويستدرك الرازي على ما تقدم بقوله: " ولسنا نقصد الاستجهال والاستنقاص لجميع من عني بالنحو والعربية واشتغل بهما وأخذ منهما، فإن فيهم من قد جمع الله له إلى ذلك حظاً وافراً من العلوم، بل للجهال من هؤلاء الذين لا يرون أن علماً موجود سواهما، ولا أن أحداً يستحق أن يسمى عالماً إلا بهما " (?) .

كان في وسع هذا النحوي اللغوي أن ينكر كل ما سوى علمه لقصور في تصوره، وكان في وسع المحدث أن يتجاهل كل ما لا يمت بصلةٍ إلى علمه لأنه خاضع لمنهجيه دقيقة أيضاً توازي (وليس من الضروري أن توافق) منهجية المفكر المتفلسف، ولكن لم يكن بمقدور هذا الأخير أن يقف موقفاً مشابهاً لهذين، خضوعاً أيضاً لانتمائه ولمنهجه، ولذلك كانت نظرته الشمولية إلى العلوم وتفريعاتها، ثم الخروج بتصنيف لها، أمراً يشبه الحتم، وكان هو حريصاً أشد الحرص على ذلك لكي يمنح الفلسفة (وخاصة الجانب المتافيزيقي منها) مكاناً في تصانيفاته، ذلك أنه لم يكن يجد من ينكر عليه ناحية " المنفعة " في سائر علوم الأوائل (ما عدا الجانب التنجيمي من علم الهيئة وما عدا الموسيقى لدى من يضيق ذرعاً بها) إلا أنه كان يواجه حملة شعواء على مستويات مختلفة إذا هو تحدث عن المتافيزيقا ا (لعلم الإلاهي) . فالرغبة لدى هؤلاء في التصنيف قوة حافزة ليس هدفها إيجاد مكان للمعارف المتصلة بالشريعة ضمن رؤية معينة، فهذه المعارف لها من المؤيدين ما يكفل لها الوجود الكامل في أي تصنيف، ولكن الهدف هو إظهار " التكامل " بين معارف الأوائل والمعارف الدينية أو على الأقل: وضع تصور جديد لا ينبذ الفلسفة ولا يهمل الشريعة، ويتمتع بشمول يحترم الفكر ويجد من الفكر نفسه كل تقدير (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015