والعجب واقع على هؤلاء كوقوعه على المذكورين قبل ولا فرق. فينبغي لكل طالب حقيقة أن يقر بما أوجبه العقل، ويقر بما شاهد وأحس وبما قام عليه برهان راجع إلى البابين (?) المذكورين، وأن لا يسكن إلى الاستقراء أصلاً إلا أن يحيط علماً بجميع الجزئيات التي تحت الكل الذي حكم فيه. فإن لم يقدر فلا يقطع بالحكم على ما لم يشاهد ولا يحكم إلا على ما أدرك دون ما لم يدرك. وهذا إذا تدبرته في الأحكام الشريعية (?) نفعك جداً ومنعك من القياس الذي غر كثيراً من الناس ومن الأئمة الفضلاء الذين غلط بغلطهم ألوف ألوف من الناس، وأنت إذا فعلت ذلك كنت على يقين من الصواب لأنك لم تقطع بتحليل ولا بتحريم ولا إيجاب إلا على كل ما أتاك عن الله تعالى الحكم عليه، وأما ما لم تجد فيه نصاً فأمسك عنه ولا تقطع عليه بأنه (?) داخل في حكم ما وجدت فيه نصاً بتكهنك (?) .
واعلم أن قوماً غلطوا أيضاً (?) في هذا النوع غلطاً لم يخرجوا به من هذا المنتشب (?) إلا أنهم بسوء النظر ظنوا انفسهم خارجين منه فسموا فعلهم في هذا الباب باسم آخر، وهو أن سموه " الاستدلال بالشاهد على الغائب " وبالحقيقة لو حصلوا البحث لعلموا أن الغائب عن الحواس من الأشياء المعلومة ليس بغائب عن العقل بل هو شاهد فيه كشهود ما أدرك بالحواس ولا فرق. وإذا أيقن المرء أن الحواس موصلات إلى النفس وأن النفس إنما [75و] يصح حكمها في المحسوسات (?) ، إذا صح عقلها من الآفات، وبأن تتفرغ من كل ما يشغل عقلها، وانفردت بأن تستبين (?) به وتفكر فيما دلها عليه، لم يجد المرء حينئذ لما يشاهد بحواسه فضلاً على ما شاهد بعقله دون حواسه، فلا غائب من المعلومات أصلاً، إذ ما غاب عن العقل لم يجز أن يعلم البتة،