والوجه الثانى: أنه أراد أن دعوته عليه، أو سبه، أو جلده، كان مما خير بين فعله له عقوبة للجانى، أو تركه والزجر له بما سوى ذلك فيكون الغضب لله تعالى، بعثه على لعنه وسبه، ولا يكون ذلك خارجاً عن شرعه. ويشهد لصحة هذا الوجه، ما رواه مسلم فى صحيحه بسنده عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلان فكلماه بشئ، لا أدرى ما هو، فأغضباه، فلعناهما وسبهما، فلما خرجا. قلت: يا رسول الله، ما أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان قال: وما ذاك؟ قالت: قلت لعنتهما وسببتهما. قال: أو ما علمت ما شرطت عليه ربى؟ قلت: اللهم! إنما أنا بشر. فأى المسلمين لعنته أو سببته، فاجعله له زكاة وأجراً" (?) .
... وفى المسند عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلاً، فقال لها احتفظى به، قال: ففعلت حفصة، ومضى الرجل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا حفصة ما فعل الرجل؟ قالت: غفلت عنه يا رسول الله فخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قطع الله يدك، فرفعت يديها هكذا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما شأنك يا حفصة؟ فقالت: يا رسول الله! قلت قبل لى كذا وكذا، فقال لها: ضعى يديك. فإنى سألت الله عز وجل، أيما إنسان من أمتى دعوت الله عز وجل عليه أن يجعلها له مغفرة" (?) .
... فتأمل: كيف أن غضبه صلى الله عليه وسلم فى الحديثين السابقين، كان غضبة لله عز وجل، فكان دعاؤه فى تلك الغضبة، مما خير بين فعله عقوبة للجانى، أو تركه والزجر له بما سوى ذلك.
... وليس فى ذلك الغضب خروج عن شرعه، وعصمته فى سلوكه وخلقه، بل فى ذلك كمال خلقه، ودلالة على بشريته، كما صرح بذلك فى رواية مسلم عن أنس قال: "إنما أنا بشر. أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر".