كنت لما لقيته، وتليت إليه من السور كما مر أشار علي بعض الصحاب ممن يخبر أحوالهم بما تقدمت له من المعرفة بهم، فأشار بأن أطرفه ببعض هدية، وإن كانت نزرة فهي عندهم متأكدة في لقاء ملوكهم، فانتقيت من سوق الكتب مصحفاً رائعاً حسناً في جزء محذو، وسجادة أنيقة، ونسخة من قصيدة البردة المشهورة للأبوصيري في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وأربع علب من حلاوة مصر الفاخرة. وجئت بذلك فدخلت عليه، وهو بالقصر الأبلق جالس في إيوانه، فلما رآني مقبلاً مثل قائماً وأشار إلي عن يمينه، فجلست وأكابر من الجقطية حفافية، فجلست قليلاً، ثم استدرت بين يديه، وأشرت إلى الهدية التي ذكرتها، وهي بيد خدامي، فوضعتها، واستقبلني، ففتحت المصحف فلما رآه وعرفه، قام مبادراً فوضعه على رأسه. ثم ناولته البردة، فسألني عنها وعن ناظمها فأخبرته بما وقفت عليه من أمرها. ثم ناولته السجادة، فتناولها وقبلها. ثم وضعت علب الحلوى بين يديه، وتناولت منها حرفاً على العادة في التأنيس بذلك. ثم قسم هو ما فيها من الحلوى بين الحاضرين في مجلسه، وتقبل ذلك كله، وأشعر بالرضى به. ثم حومت على الكلام بما عندي في شأن نفسي، وشأن أصحاب لي هنالك. فقلت
أيدك الله! لي كلام أذكره بين يديك، فقال: قل. فقلت أنا غريب بهذه البلاد غربتين، واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشئي وأخرى من مصر وأهل جيلي بها، وقد حصلت في ظلك، وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غربتي، فقال: قل الذي تريد أفعله لك، فقلت: حال الغربة أنستني ما أريد، وعساك - أيدك الله - أن تعرف لي ما أريد. فقال: انتقل من المدينة إلى الأردو عندي، وأنا إن شاء الله أوفى كنه قصدك. فقلت يأمر لي بذلك نائبك شاه ملك، فأشار إليه بإمضاء ذلك، فشكرت ودعوت وقلت: وبقيت لي أخرى، فقال: وما هي، فقلت: هؤلاء المخلفون عن سلطان مصر. من القراء والموقعين، والدواوين، والعمال، صاروا إلى إيالتك والملك لا يغفل مثل هؤلاء فسلطانكم كبير، وعمالاتكم متسعة، وحاجة ملككم إلى المتصرفين في صنوف الخدم أشد من حاجة غيركم، فقال وما تريد لهم؟