رحله ابن خلدون (صفحة 200)

المعادة تابعهم ومتبوعهم.

ولما سبحت في اللج الأزرق، وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق، حيث نهر النهار ينصب من صفحه المشرق، وشجرة الملك التي اعتز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق، وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق، وينابيع العلوم

والفضائل تمد وشلنا من فراته المغدق، أولوني عناية وتشريفاً، وغمروني إحساناً ومعروفاً، وأوسعوا بهمتي إيضاحاً، ونكرتي تعريفاً، ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف، من حسنات السلطان صلاح الدين أيوب ملك الجلاد والجهاد، وماحي آثار التثليث والرفض الخبيث من البلاد، ومطهر القدس الشريف من رجس الكفر بعد أن كانت النواقيس والصلبان فيه بمكان العقود من الأجياد. وصاحب الأعمال المتقبلة يسعى نورها بين يديه في يوم التناد، فأقامني السلطان - أيده الله - لتدريس العلم بهذا المكان، لا تقدما على الأعيان، ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشان، وإني موقن بالقصور، بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء في هذا القضاء، وأنا أرغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء، أن يلمحوا بعين الارتضاء، ويتغمدوا بالصفح والاغضاء، والبضاعة بينهم مزجاة، والاعتراف من اللوم - إن شاء الله - منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة. والله تعالى يرفع لمولانا السلطان في مدارج القبول أعماله، ويبلغه في الدارين آماله، ويجعل للحسنى والمقر الأسنى، منقلبه ومآله، ويديم على السادة الأمراء نعمته، ويحفظ على المسلمين بانتظام الشمل دولتهم ودولته، ويمد قضاة المسلمين وحكامهم بالعون والتسديد، ويمتعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد، ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السعيد، بمنه وكرمه.

وانفض ذلك المجلس، وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار، وتناجت النفوس بالأهلية للمناصب، وأقمت على الاشتعال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ في نزعة من النزعات الملوكية، فعزله، واستدعاني للولاية في مجلسه، وبين أمرائه، فتفاديت من ذلك، وأبى إلا إمضاءه. وخلع علي، وبعث معي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015