من أجلسني بمقعد الحكيم في المدرسة الصالحية في رجب ست وثمانين، فقمت في ذلك المقام المحمود، ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق، وتحري
المعدلة، حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله، ووقع من شغب أهل الباطل والمراء ما تقدم ذكره.
وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس، فمنعهم سلطان تونس من اللحاق بي اغتباطاً بمكاني، فرغبت من السلطان أن يشفع عنده في شأنهم، فأجاب، وكتب إليه بالشفاعة، فركبوا البحر من تونس في السفين، فما هو إلا أن وصلوا إلى مرسى الإسكندرية، فعصفت بهم الرياح وغرق المركب بمن فيه، وما فيه، وذهب الموجود والمولود، فعظم الأسف، واختلط الفكر، وأعفاني السلطان من هذه الوظيفة وأراحني، وفرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريساً وتأليفاً.
ثم فرغ السلطان من اختطاط مدرسته بين القصرين، وجعل فيها مدافن أهله، وعين لي فيها تدريس المالكية، فأنشأت خطبة أقوم بها في يوم مفتتح التدريس على عادتهم في ذلك ونصها:
الحمد لله الذي من على عباده، بنعمة خلقه وإيجاده، وصرفهم في أطوار استعباده بين قدره ومراده، وعرفهم أسرار توحيده، في مظاهر وجوده، وآثار لطفه في وقائع عباده، وعرضهم على أمانة التكاليف ليبلوهم بصادق وعده وإبعاده، ويسر كلاً لما خلق له، من هدايته أو إضلاله، وغيه أو رشاده، واستخلف الإنسان في الأرض بعد أن هداه النجدين لصلاحه أو فساده، وعلمه ما لم يكن يعلم، من مدارك سمعه وبصره والبيان عما في فؤاده، وجعل منهم أنبياء وملوكاً يجاهدون في الله حق جهاده، ويثابرون على مرضاته في اعتمال العدل واعتماده، ورفع البيوت المقدسة بسبحات الذكر وأوراده.