وفروع مذهب مالك رضي الله عنه، وكتب المتصوفة. وفي كل علم منها له القدح المعلى ويجلو مشكلاته بنور فهمه ويلقى نكته الرائقة من حفظه. وهذا شأن الأئمة المهتدين والخلفاء الراشدين.
ولم أر من ملوك الدنيا من بلغت عنايته بالعلم إلى هذه النهاية. فقد رأيت ملك الهند يتذاكر بين يديه بعد صلاة الصبح في العلوم الصبح في العلوم المعقولات خاصة، ورأيت ملك الجاوة يتذاكر بين يديه بعد صلاة الجمعة في الفروع على مذهب الشافعي خاصة، وكنت أعجب من ملازمة ملك تركستان لصلاتي العشاء الآخرة والصبح في الجماعة، حتى رأيت ملازمة مولانا أيده الله في الصلوات كلها في الجماعة ولقيام رمضان: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1.
قال ابن جزي: لو أن عالماً ليس له شغل إلا بالعلم ليلاً ونهاراً، لم يكن يصل إلى أدنى مراتب مولانا أيده الله في العلوم، مع اشتغاله بأمور الأمة، وتديبره لسياسة الأقاليم النائية، ومباشرته من حال ملكه ما لم يباشره أحد من الملوك، ونظره بنفسه في شكايات المظلومين. ومع ذلك كله فلا تقع بمجلسه الكريم مسألة علم في أي علم كان إلا جلا مشكلها، وباحث في دقائقها واستخرج غوامضها واستدرك على علماء مجلسه ما فاتهم من مغلقاتها. ثم سما أيده الله إلى العلم الشريف التصوفي، ففهم إشارات القوم وتخلق بأخلاقهم. وظهرت آثار ذلك في تواضعه مع رفعته وشفقته على رعيته ورفقه على أمره كله وأعطى الآداب حظاً جزيلاً من نفسه فاستعمل أحسنها منزعاً وأعظمها موقعاً وصارت عنه الرسالة الكريمة والقصيدة اللتان بعثهما إلى الروضة الشريفة المقدسة الطاهرة روضة سيد المرسلين وشفيع المذنبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبهما بخط يده الذي يخجل الروض حسناً.
وذلك شيء لم يتعاط أحد من ملوك الزمان إنشاءه ولا رام إدراكه. ومن تأمل التوقيعات الصادرة عنه أيده الله تعالى وأحاط علماً بمحصولها لاح له فضل ما وهب الله لمولانا من البلاغة التي فطره عليها وجمع له بين الطبيعي والمكتسب منها. وأما صدقاته الجارية وما أمر به من عمارة الزوايا بجميع بلاده لإطعام الطعام، للوارد والصادر، فذلك ما لم يفعله أحد من الملوك، غير