تركتموني وأنا معلّم في رَنكوس، بقيت فيها شهراً في سجلّ الوظيفة من (1/ 1/1934 إلى 31/ 1/1934) وإن لم أبقَ إلاّ ساعتين في واقع الزمن. وأين أبقى والقرية منقطعة وليس فيها نُزُل أنزل فيه ولا مدرسة أدرّس فيها، وهي في رأس جبل ما لي فيها مقام ولا إليها سبيل، والشتاء بارد يَقصّ من برده المسمار، والثلج بساط أبيض يغطّي الأرض؟!
رجعت إلى وزارة المعارف، وكان ركناها -كما قلت لكم- هما الأستاذ العالِم المربّي مصطفى تمر وهو المفتّش، مفتّش واحد لدمشق وملحقاتها، والأستاذ الشاعر الأديب شفيق جبري. كانا في غرفة واحدة، هذا في ركنها الأيمن في الزاوية وذاك في الركن الأيسر، وهما جسيمان هادئان قليلا الكلام طويلا الصمت، يبقيان النهار كله لا يتحدثان إلاّ إن زارهما (معاً) زائر أو جمعهما حديث لا بد منه، حتى يحين موعد الانصراف، فيرفع جبري بصره إلى تمر، يسأله بعينه وبهزّة خفيفة لا تُدرَك من رأسه أن: تقوم؟ فيقول الآخر بمثلهما من عينيه ورأسه: أي نعم، فيتحركان في كرسييهما، ثم ينهضان كأن أحدهما يرى الآخر في المرآة، ثم يرتدي كلٌّ معطفه ويتوجّهان إلى الباب.
دخلت عليهما فرحّبا بي، وإن كان في نفس جبري شيء (بل أشياء) مني لأني رددت عليه وكتبت عنه، ولكني لم أرَ لذلك أثراً في معاملته لي. وكلاهما كان أستاذي: مصطفى تمر في السلطانية الثانية سنة 1919، وشفيق جبري في كلّية الآداب سنة 1930.
وابتدرني مصطفى تمر قائلاً: ثو جابك؟ لازم تكون في