تدخل الموادّ الأوّلية المصنع وتخرج منه شيئاً آخر، هو منها ولكنه ليس ذاتها. وربما آخذ فكرة لغيري فأرويها منسوبة إليه، ولكن «مصنع ذهني» يعدّلها ويبدّلها أو ينقص منها، فيكون لي فيها مثل عمل شارح ديوان الشاعر يفسّر كلامه تفسيراً ما خطر له على بال. لكني لا أصنع هذا -بحمد الله- في الأحكام الشرعية، ولا أنكر أني من كبر السن صرت أنسى شيئاً منها وأُقِرّ بأني ناسيه، لكن لا أبدّل فيها ولا أغيّر، ومالست متوثّقاً منه لا أُفتي فيه، وإن كان الخطأ يقع مني فإن نُبّهت إليه رجعت عنه.
في تلك السنة اقترح عليّ الأستاذ أحمد عبيد، أحد أصحاب المكتبة العربية، وهو الأديب الشاعر أن أضع كتاباً عن أبي بكر الصديق. وقد أعانني فكان يأتيني بالمراجع، وهو مِن أعرَف الناس بها. ومنها ما لم أكن أعرفه من قبل ومنها ما هو مخطوط، وهو مِن أعلَم الناس بالمخطوطات، تُوفّي إخوته الأربعة وبقي أطال الله عمره. واشتغلت بتأليف الكتاب ولم يعترضني في شيء، لكن لمّا جئت آخذ الأخبار التي جمعناها من مئة كتاب (مذكورة في آخر كتابي) وأنشئ منها دراسة عن حياة أبي بكر رضي الله عنه، أبى إلاّ أن نضع الأخبار كما هي ونكتفي بالتعليق عليها، وطبع الكتاب على ما أراد في رجب سنة 1353هـ.
ودفع لي عن حقّ التأليف ثلاثين ليرة سورية، وكان راتبي يومئذ ستاً وثلاثين ليرة في الشهر.
* * *
أعود إلى حديث الوظيفة.